ويلوح ان هبوط مستوى الثروات في مكة في هذا العصر وارتحال اصحاب الفن من المغنيين واللاعبين والمترفين ترك اثره في الحياة العامة فقد انكفأ الاهالي فيها على المنهل الوحيد الذي بقي لهم بين خلقات العلماء ومجالسهم فهيأ ذلك الى اتجاه تعلموا فيه الزهد والتقشف والرضا والرغبة في ثواب التعلم والتفقه فكانت الحركة العلمية التي اشرنا اليها في صدر بحثنا والتي رأينا أجلة العلماء بسببها يبرزون في التفسير والحديث والافتاء.
وتبع هذا ان اشتهرت مكة في هذا العصر بكثير من عبادها وزهادها وبدأ المهاجرون من هذه الطبقة يجدون في مكة مأوى يفرون إليه من زيف الحياة في الامصار متفيئين بظل الكعبة منقطعين للعبادة حولها وتبع ازدياد المنقطعين واكثرهم من طبقات فقيرة ان احتشد الفقر باحتشاد هذا الصنف من الناس وبدأ المحسنون يبنون لهم التكايا ويرتبون لهم الصدقات ، وبذلك خطت مكة خطوتها الاولى في هذا العصر نحو العيش في ظل التكايا وقد ظهر أثر ذلك واضحا في العهد العباسي الثاني مما سيأتي ميانه في فصول آتية.
** الناحية العمرانية :
لا يستنتج الباحث من مطالعاته فيما كتب عن مكة ان عمرانها اتسع في هذا العهد عما عرفناه في عهد الامويين او ان مساحة المأهول فيها توسعت عما كانت بل يجد ان الامر على عكسه وان السكان قل تعدادهم جدا فقد تفرق ابناء مكة في الافاق واستوطنوا الاراضي المخصبة واتخذوا لهم املاكا في مصر والمغرب والشام والعراق حتى لم يبق في مكة من أهلها إلا أقل من القليل مع من جاورهم من مسلمي الافاق للتشرف بالجوار وكان من عادة حكام مكة ان ينادي مناديهم بعد اداء الحج «يا غريب بلادك» تقليدا لابن الخطاب
صفحہ 179