تاريخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
اصناف
11
حتى لو لم يجب التسليم تماما بما جاء في هذه المذكرة التي تعد مقالة نقدية لاذعة موجهة ضد سان لازار (وهو ما فعله، على الرغم من ذلك، ميشيل فوكو فيما يتعلق بهذا النص)، فإن هذا لا يمحي السمعة السيئة التي شاعت عن الآباء الرهبان خلال القرن الثامن عشر. لقد كان السوط سمة مميزة للمؤسسة، لدرجة أن الرهبان أطلق عليهم لقب «الإخوة المعاقبون بالضرب».
12
العديد من الجانحين كانوا يشتكون من هذه المعاملة، كما هي الحال بالنسبة إلى نزلاء سجن جبل القديس ميشيل الذين كانوا يشكون أنهم «يتعرضون للضرب» و«يوضعون في أقفاص» من قبل الرهبان. ولكن يتعلق الأمر بالجانحين الذين يجب بحق، في نظر الرأي العام، تأديبهم. تكمن المسألة في معرفة إلى أي مدى - في ظل حياة يومية تتسم بالتفاهة والابتذال - يعي الرهبان القائمون على إدارة دور الاحتجاز الجبري الفرق بين الجانحين والمختلين عقليا، بحيث يحتفظون لأنفسهم بحق إساءة معاملة الجانحين وحدهم، واضعين نصب أعينهم أن المختلين عقليا مجرد مرضى. شتان ما بين فرساي وهذه العقول المستنيرة.
في منتصف الطريق بين هذين المصدرين المتناقضين، من المؤسف عدم امتلاكنا لشهادات مباشرة ل «مستخدمين». هناك بعض الأقوال، شديدة الندرة بالنسبة إلى المؤرخ، رواها بعض الجانحين، مثل ذلك الكاهن الذي كان محتجزا في لاسيليت، على حدود منطقة أوفيرني الإدارية، وكتب في عام 1736 رسالة إلى حاكم المنطقة قال فيها: «جميع أولئك الذين أتعسهم الحظ وسكنوا في سجن لاسيليت الشنيع حيث يسمعون اسم الله القدوس يجدف عليه نهارا وليلا من قبل الحمقى، يعانون ليس من الطعام البشع والمقزز فحسب، بل أيضا من الضجة المتواصلة التي يحدثها المختلون عقليا المذكورون، الذين وصل بهم الأمر إلى حد تهديد المصلين يوميا بالقتل.»
13
إن شهادة لاتود،
14
الذي نقل من الباستيل إلى شارنتون في عام 1775، مثيرة للاهتمام، حتى ولو كان لا ينبغي التسليم بها بشكل مطلق. إن مذكراته، التي ظهرت في بداية الثورة، جعلت منه «واحدا من أكثر ضحايا الاستبداد الملكي إثارة للشفقة». لقد سجنه الملك منذ عام 1749 وحتى عام 1789. بعد أن أصبح هذا السجين لا يطاق في الباستيل - السجن نفسه الذي هرب منه في عام 1756 - نظرا لأنه كان مصابا ب «هوس الكتابة»، وقد وصل به الأمر إلى حد الكتابة على قميصه بدمه (يمكن الاطلاع على المستند الذي يثبت هذا الكلام والموجود في أحد صناديق المحفوظات بمكتبة الترسانة)؛ جرى نقله إلى شارنتون «بسبب إصابته بخلل عقلي». بالطبع لا يعتبر لاتود نفسه مجنونا، وهو على الأرجح ليس مجنونا تماما، ولكن ما يهمنا هنا هو تلك العلاقة التي يبرزها لنا، نوعا ما كخلفية، عن المجانين في شارنتون. «صممت دار شارنتون خصيصى لتكون بمنزلة مصحة للمجانين: بعضهم يكون في حالة مستمرة من الجنون والهياج والغضب الشديد مما يجعلهم خطرين؛ ولذا يجري حبسهم وتقييدهم بالسلاسل في أماكن مغلقة أشبه بالحجرات، حيث لا يخرجون منها أبدا. وآخرون لا تنتابهم فورات الغضب ونوبات الهياج إلا بصفة دورية وفي أوقات معينة من السنة، وفيما خلا ذلك ينعمون بالهدوء والاتزان العقلي، ومن ثم تترك لهم الحرية الكاملة داخل الدار حيث لا يتم احتجازهم إلا حينما يكونون على وشك الانزلاق في هذه الحالة المؤسفة. وأخيرا، هناك أولئك المصابون بجنون هادئ ومسالم بل ولطيف في بعض الأحيان، وغالبا لا يثير جنونهم إلا فكرة واحدة أو شيء وحيد، وفيما عدا ذلك يبدو أنهم يتمتعون بذهن صاف وحاضر. هؤلاء، يسمح لهم عادة بالخروج من غرفتهم والالتقاء بالآخرين والتجمع والتنزه في جميع أرجاء الدار، بل إن بعضهم يحصل على إذن بالخروج من الدار خلال النهار.» في موضع آخر، يضيف لاتود: «لقد قلت إنه كان هناك بالفعل مجانين تأتيهم نوبات الهياج والغضب بشكل دوري: وحين تنتابهم تلك النوبات، كان يتم إنزالهم في حجرات سفلية أو سراديب تحت الأرض أشبه بالمقابر حيث كان يجري تقييدهم، وأحيانا كان يتم وضعهم في أقفاص حديدية. وحين تنقضي نوبة الهياج، كان يجري اصطحابهم إلى المبنى الرئيس الذي يحوي غرف النزلاء الآخرين.» في عام 1777، ألقي لاتود، الذي كان قد أفرج عنه ولكنه سرعان ما أدين في قضية احتيال أخرى، في بيستر. وهو أمر مؤسف بالنسبة إلى التحقيق الذي نجريه، فلم يتم وضعه هذه المرة لدى المجانين وإنما لدى الجانحين. «ما زلت أرتعد حين أنطق اسم بيستر.» زنازين الحبس الانفرادي، ضربات العصي، القمل والبراغيث، الجرب، الإسقربوط، المجاعة على وجه الخصوص ... أين أيام الباستيل «الجميلة»، حين كان يسمح لنا بمناقشة قوائم الطعام، وأين أيام شارنتون بحدائقها، ومكتبتها وصالة البلياردو التابعة لها؟ ولكن في حقيقة الأمر، إن دار بيستر للمجانين لا يمكن أن تكون أكثر راحة من الإصلاحية.
ولكننا يجب ألا نستنتج من ذلك أن الحمقى المحتجزين كان يجري تسليمهم إلى دور الاحتجاز الجبري دون رقابة. إذ إن سجلات الدخول والخروج، والوفيات، والتقارير المنتظمة، وعمليات التفتيش التي كان يقوم بها القائد العام لشرطة باريس أو النائب العام أو حكام الأقاليم بشكل شبه سنوي؛ تشهد على أنه كان هناك حرص دائم على عدم التخلي عن المختلين عقليا وتركهم لمصيرهم. إن عمليات التفتيش تلك، التي كان يتم إجراؤها دائما بمنتهى الدقة، تعد دليلا قيما على الجنون، ليس في المرحلة السابقة للاحتجاز، بل بالأحرى في أثناء فترة الاحتجاز. هذه هي الحال في شارنتون وسان لازار على وجه الخصوص. العديد من البيانات تكتفي باستخدام بعض التعبيرات المختصرة على شاكلة: «مختل العقل دائما»، «مجنون هائج على فترات»، «أصبح معتوها»، بعض التقارير الأخرى تتكلف عناء إجراء مقارنات بين الملاحظات التي يبديها كل مختل على حدة والمطابقة بينها، زيارة بعد أخرى، مع رصد تطور الجنون. كان القاضي يدخل كل غرفة، وكل حجرة، ويستجوب شخصيا الأحمق. ومرة أخرى، نجد أن الجنون لم يكن يتم الحكم عليه استنادا إلى التقييم الطبي، وإنما استنادا إلى الخلفية السلوكية التي أفضت إلى الاحتجاز في المقام الأول. في الواقع، للتعرف على المجنون، نحن لسنا بعيدين تماما عن الصيغة التي وردت بأحد كتيبات محاكم التفتيش في أواخر القرون الوسطى: «وكيف للمرء أن يعرف أنه يتعامل مع مجنون؟ الغبي يتحدث بغباء.»
نامعلوم صفحہ