تاريخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
اصناف
بالإضافة إلى دار شارنتون، كانت دار سان لازار هي دار الاحتجاز الباريسية الأخرى التي تتولى حبس الحمقى، مبدئيا بموجب خطاب مختوم يحمل أمرا ملكيا فقط. فمقابل دفع نفقة إقامة قدرها 600 جنيه بحد أدنى (كانت هناك أيضا نفقات إقامة تبلغ 1000، بل 1200 جنيه)، كان هذا المنزل، الذي تديره جماعة «قساوسة الإرسالية» التي أسسها فنسان دي بول، مخصصا للعائلات الميسورة على غرار دار شارنتون. كما هي الحال في دور الاحتجاز الأخرى بالمملكة، كانت دار سان لازار تحتجز أيضا جانحين خاضعين للإصلاح (على نمط الفارس دي جريو، بطل إحدى الروايات الأدبية). في نهاية القرن السابع عشر، كانت الدار تحوي 48 غرفة للجانحين و38 غرفة للمختلين عقليا الذين تضاعف عددهم خلال القرن الثامن عشر.
أما مشفى باريس العام، فقد استمر في العمل خلال القرن الثامن عشر باعتباره مشفى ودار احتجاز جبري - وهي الخطوة التي شكلت انحرافا ملحوظا في الأقاليم - عن طريق حبس الجانحين والمختلين عقليا بناء على طلب العائلات. ولقاء دفع تكلفة إقامة قدرها 200 جنيه سنويا، كانت هذه الدار تعد أرخص دار احتجاز في المملكة. وتبعا لذلك، كانت الأوضاع المعيشية متردية داخلها بما رافقها من ضيق وعدم ارتياح وازدحام نتج عنه اختلاط غير مرغوب فيه، وقد ظل «المشفى» كما هو محتفظا بهيبته بحيث كان اسمه وحده يثير الذعر في نفوس القاعدة العريضة من الفقراء (ولفترة طويلة كانت عبارة «الانتهاء في المشفى» تعد في اللغة الشعبية مرادفا للموت بؤسا). «هذا مكان لا يليق بكاهن»، يذكر قصر فرساي في عام 1739. وكانت العائلات، من جانبها، تستنكف من طلب المشفى من أجل المختلين عقليا لديها (لأن اسم المشفى يجرح مخيلتهم)، ولكن هناك أيضا تكلفة الإقامة التي لا مفر منها، والتي تزيد قيمتها خمسين جنيها بالنسبة إلى الطلبات القادمة من الأقاليم؛ مما يدل على وجود محاولات للحد من هذه الطلبات. ومع ذلك، على الرغم من تشديد الإجراءات، حدث «تدفق» عظيم خلال القرن الثامن عشر من جميع أرجاء المملكة نحو بيستر وسالبيتريير. أضيفت إلى طلبات الإيداع المباشرة تحويلات عديدة قادمة من دور الاحتجاز الجبري الأخرى؛ حيث كانت العائلات تعجز عن دفع تكاليف الإقامة المقررة مع عدم وجود إمكانية في الوقت نفسه لإطلاق سراح المختل عقليا .
وهذا هو ما يفسر العدد الكبير للمختلين عقليا المحتجزين، وليست اعتقالات المشفى العام، وهو عدد يجب من ثم عدم مقارنته مع عدد سكان باريس. في نهاية القرن الثامن عشر، بلغ عدد المحتجزين في بيستر ثلاثمائة مختل عقليا على النحو التالي: 92 «مجنونا هائجا مقيدون بالسلاسل»، و138 «مجنونا معتوها أو ضعيف العقل»، وأقل بقليل من مائة مريض بالصرع، وهؤلاء كان يتم تمييزهم بعناية عن المختلين عقليا، وكان يجري تسكينهم بشكل منفصل متى كان ذلك ممكنا، ولكن كان من الصعب للغاية إحصاؤهم؛ لأننا كنا نجد بعضهم أيضا في القطاعات الخاصة «بالعاملين أو بالأطفال». وأولئك الذين كانوا يوضعون في قطاع المجانين هم المرضى الذين كانت تنتابهم فقط نوبات صرع خطيرة. بالإضافة إلى ذلك، كان لا بد من إخفاء «هذا المرض المرعب والقادر على زرع الفوضى والاضطراب والذعر كل يوم في نفوس المرضى» عن الأعين. أما فيما يتعلق بالمجنونات ذائعات الصيت في سالبيتريير، فقد بلغ عددهن سبعمائة (من بينهن 300 مريضة بالصرع)، ولكن، لا ننس أن هذا العدد الإجمالي للمحتجزين في ذلك الوقت كان يبلغ 7800 شخص. كانت المؤسسة مترامية الأطراف، لدرجة أننا حين نقول «المشفى»، فإننا نقصد بذلك مشفى سالبيتريير. لم يكن قطاع المجنونات، المسمى ب «الغرف»، حتى إذا أضيف إليه مبنى سانت جان للمعتوهات ومريضات الصرع، سوى واحد من ضمن 14 قطاعا داخل مؤسسة سالبيتريير، وكانت جميع هذه القطاعات معزولة بعناية بعضها عن بعض. بعيدا عن أي مقارنة، كان يتم احتجاز الجانحين في «قسم الحبس القسري» الذي أنشئ عام 1684 (حيث كان بالإمكان دائما رؤية المبنى الذي يشمل هذا القسم في نطاق مجمع لا بيتييه-سالبيتريير الاستشفائي). وكانت هناك أربعة أجنحة منفصلة مخصصة للاحتجاز على النحو التالي: جناح «العامة» (للعاهرات اللواتي لا أمل في تقويمهن)، و«الإصلاحية» (للعاهرات أيضا ولكن لأولئك اللواتي هناك أمل في إصلاحهن)، و«جناح الحجز المشدد» (الذي يضم المحتجزات بناء على أمر ملكي)، و«السجن» (للمذنبات الموسومات بالعار اللواتي تمت إدانتهن). يتعلق الأمر بالفعل هذه المرة بالنساء اللائي اقترفن جريمة؛ حيث كن يخضعن لنظام أشد صرامة عما كان سائدا في القطاعات الأخرى. ينطبق الأمر عينه على بيستر. إنهما عالمان مختلفان لهما جغرافيا مشتركة. ولن يتسع المقام للخوض في تفاصيل أكثر لإبراز هذه الفكرة بشكل أقوى.
كانت المشافي العامة تحتجز وحدها بصفتها دور احتجاز جبري ربع المختلين عقليا في فرنسا، مع وجود الأغلبية الساحقة منهم في سالبيتريير وبيستر. وقد دارت عجلة النظام بشكل أسرع في أواخر القرن الثامن عشر، على الرغم من الحل الآخر الذي لجأت إليه الإدارة فيما بعد كوسيلة لتدارك الأمور، والمتمثل في: مستودعات التسول ...
الحياة اليومية
ربما نستطيع أن نتوقع أن مستوى الحياة اليومية للمختلين عقليا داخل دور الاحتجاز الجبري يختلف وفقا لتكلفة إقامة الفرد، سواء كانت 200 جنيه أم 1200 جنيه. وغالبا ما كانت الأسعار تختلف داخل المؤسسة الواحدة تبعا لقوائم الخدمات. وفي حالة تحديد سعر موحد، تكون هناك دائما مبالغ إضافية تدفع نظير خدمات أخرى وليس فقط للكماليات، مثل: الخشب لتدفئة للنزلاء الذين يتسمون بالهدوء والأثرياء بما يكفي ليسمح لهم بتملك مدفأة (إذ كانت الغرف خالية بالطبع من المدافئ) والشمعدان للإنارة، ومزيد من الطعام، وتغيير الملابس أو فرش الأسرة أو القش، والتمتع بقدر أكبر من حسن المعاملة ورقتها بفضل البقشيش الذي يقدم إلى الحارس أو التبرعات المقدمة إلى القسيس. علاوة على المبالغ الأخرى التي كان يتم دفعها للزيارات الطبية والأدوية، بالنسبة إلى المرضى القلائل الذين لا يزال هناك بصيص أمل في شفائهم.
على أي حال، كانت حياة المختل عقليا، بصرف النظر عن تكلفة إقامته، تختلف جذريا وفقا لهدوئه أو حالة هياجه. ففي الحالة الأولى، يتمتع النزيل بحرية التنزه في الباحة أو الفناء، ولا يعود إلى مهجعه أو غرفته إلا في أوقات الغذاء أو النوم. أما في الحالة الثانية ، فبالإضافة إلى تعيين موظفين لإخضاعه للمراقبة المشددة، قد يجري عزله وحبسه بشكل دائم. في بعض المؤسسات، كما في مشفى لا ترينيتيه بإكس آن بروفانس، كانت هناك محاولات للاستعاضة عن الجنازير بقيود تتيح للمختلين عقليا مع ذلك أن يتحركوا ويتنقلوا في الفناء، فضلا عن الحبس والتقييد بالمعنى الحرفي، كانت هناك العديد من الأدوات التي يتم استخدامها بصورة منتظمة للعقاب: الأغلال أو القيود الحديدية، والأقفاص كما في شارنتون.
يبقى أن نعرف ما إذا كان المختلون عقليا يتلقون عموما معاملة جيدة أم سيئة. إذا صدقنا ما ورد في اللوائح والتقارير الصادرة عن دور الاحتجاز الجبري، نجد أن كل شيء كان معدا لتحسين حالة المختلين عقليا (ليس هناك إلا مشفى باريس العام الذي لم يتكبد حتى عناء محاولة تطبيق هذا النظام في تقاريره). في شارنتون، كان يتم اصطحاب ذوي السلوك الهادئ من المختلين عقليا في نزهة تصل أحيانا إلى الريف. أما ذوو السلوك العنيف، فكان يتم حبسهم في زنزانة لا تتضمن «سوى غرفة صحية مؤمنة أكثر من الغرف الأخرى». وكان يتم إخضاعهم لحمامات، وعمليات فصد، وعلاجات مختلفة لمعالجة الجنون (سنعود إلى هذه المسألة لاحقا). وكان المستوصف يستقبل أولئك وهؤلاء لدى إصابتهم بأي توعك. وكانت هناك مكتبة منتقاة بعناية مجهزة لأولئك الذين لديهم الحق في القراءة. وكانت وجبة الغداء (الفطور بالنسبة إلينا) تتكون من «قطعة من أجود أنواع الخبز ومقدار نصف ستية [25 سنتيلترا] من النبيذ(!)» أما وجبة العشاء (الغداء بالنسبة إلينا)، فتشمل «قطعة لحم بقري أو لحم ضأن مسلوقة، أو شريحة لحم خنزير مطبوخة بالماء المملح مع التوابل، وطبق مقبلات، ومقدار نصف ستية نبيذا». وفي وجبة المساء، كان يقدم «لحم العجل أو الضأن المشوي، ونصف ستية من النبيذ». في سان يون، كانت قائمة الطعام تتغير يوميا، وهناك أيضا كانت تقدم اللحوم في الوجبتين، عدا يوم الجمعة بطبيعة الحال؛ إذ كان يقدم فيه «سمك القد أو غيره من الأسماك المملحة» في العشاء والبيض كوجبة مسائية. «وكانت تقدم الحلوى جميع الأيام ما عدا ثلاث مرات في الأسبوع ؛ حيث يتم استبدال السلطة بها.» في دور الاحتجاز الجبري ذات الميزانية المتواضعة، يبدو أنه كان هناك اقتناع بأن «ثلاثة أرغفة من الحنطة زنة اثنتي عشرة أوقية [366 جراما]، وثلث كأس نبيذ [60 سنتيلترا] وحساء سميكا نهارا وليلا، مع خضراوات، ولحوما ومعكرونة» تمثل حصة غذائية كافية يوميا .
ومن ثم، لن يكون مفاجئا الحصول على صدى متباين للغاية في الخطابات التي أرسلها بعض المختلين عقليا القادرين على صياغة شكاواهم. في الواقع، كان يحق لأي مسجون بموجب أمر ملكي، سواء أكان سجينا سياسيا، أم جانحا، أم مختلا عقليا، رفع شكوى أو تظلم، ويجب تحويل مذكرته للعرض على فرساي. ينطبق الأمر عينه على المعتقلين بناء على أحكام قضائية، الذين كان بإمكانهم مراسلة النائب العام لبرلمان باريس وكان يتم إجراء تحقيق إثر تلقي شكاواهم، خاصة إذا كان الشخص المعني يحتج على اعتقال تعسفي أو حجز متعنت. ولكن، هل كانت تتم دائما إحالة هذه العرائض، بالنظر إلى أن رؤساء الديوان الملكي كانوا يقومون أولا بفرز الكتابات التي يرونها جنونية؟
الشكاوى التي وصلت إلينا تقدم لنا صورة مختلفة تماما لحياة يومية مليئة بأنواع شتى من الحرمان، مع إجبار المحتجزين على تناول الخبز الجاف والماء عند ظهور بوادر انحرافات سلوكية، وتقييدهم وحبسهم دون مبرر، وضربهم من قبل الخدم السود، بل والرهبان. وكان المتظلمون يرفقون شكاوى جماعية ومذكرات دفاعية بخصوص هذه الاتهامات. في عام 1767، قدم أحدهم شكوى إلى رئيس أساقفة تولوز يلوم فيها الآباء الرهبان الفرنسيسكان بدير سان بيير دو كانون على قيامهم باحتجاز المختلين عقليا لتحقيق منفعة خاصة، منتهزين فرصة أن المختلين عقليا، خلافا للجانحين الآخرين، يمكن أن يظلوا محتجزين مدى الحياة ومحرومين من كل شيء بما أن وضعهم لا يسمح لهم بالشكوى. وفقا لمذكرة دفاع نشرت في عام 1697، كان المختلون عقليا المحتجزون بسان لازار يتعرضون لإساءة المعاملة مثلهم مثل الجانحين: «يقوم الإخوة الخدم أو الحراس بأخذ المختلين عقليا في نزهة في ساحة الدار في فترات العصر وفي أيام العمل. إنهم يقودونهم جميعا والعصا في اليد كما يقاد قطيع من غنم، وإذا انسل أحد خارج القطيع، أو كان لا يستطيع السير بسرعة الباقين نفسها، تنهال عليه العصي بمنتهى القسوة والوحشية لدرجة أن بعضهم يصاب بعجز أو تشوه، وآخرون تهشم رءوسهم ويموتون من فرط ما تلقوه من ضرب.»
نامعلوم صفحہ