تاريخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
اصناف
أما هنري الثاني، الذي تولى الملك في عام 1547 خلفا لأبيه، فقد أصدر في العام نفسه لتوليه الحكم بيانا أشد قسوة وصرامة أوضح فيه أن الفقراء الحقيقيين المعاقين جسديا محرومون من الصدقات بسبب المتسولين والشحاذين سليمي البنية؛ لذا سيتم إجبار هؤلاء المدعين على العمل في الأشغال العامة، وسيتم وضع المعاقين المشردين الذين لا مأوى لهم في المشافي. غير أن الإصدار المتكرر لقرارات الحظر وتغليظ العقوبات يظهر بشكل واضح أن هذه المعركة لا نهاية لها.
في الوقت نفسه ، أصبحت المساعدات منحصرة في مقرات مركزية: ففي عام 1531، أنشئ المركز العام لتوزيع الصدقات في ليون، كما تم تأسيس مكتب للفقراء في روان في عام 1534، ومكتب كبير للفقراء في باريس في نفس العام. واجتيحت باريس من قبل المتسولين، ولا سيما أنهم كانوا يأتون من جميع أنحاء المملكة. وكانت هناك مخاوف من انتشار الطاعون «الذي طالما حفظ الله المدينة منه». وتمثل الابتكار الأعظم في تعيين منشأة خاصة للشريحة الواسعة من المتشردين العاجزين، والتي تنقسم ما بين «الفقراء الحقيقيين»، المراد إبقاؤهم في المناطق الرعوية التابعين لها على أن يتم إرسال المعونات لهم في مقار إقامتهم؛ والمتسولين سليمي الجسد المراد طردهم من باريس. ومن الجدير بالذكر أن مجذمة سان جرمان (الخالية من المجذومين)، التي كانت مهجورة منذ عام 1544، أعيد «تأهيلها» في عام 1557، وتحولت إلى مشفى سان جرمان المخصص «لإيواء وحجز وإطعام الرجال والنساء والفقراء غير القابلين للإصلاح والتقويم أو المعاقين أو العاجزين». مساعدة واحتجاز ... هكذا نشأ المشفى العام - حتى لو لم يكن تحت هذا الاسم نفسه - في فرنسا، وبالأخص في باريس، في منتصف القرن السادس عشر.
تشكل المادة 73 من مرسوم مولان (مارس 1566) أول قانون عام يصدر بشأن التسول. وقد نص على أن الفقراء التابعين لكل منطقة يجب إطعامهم ورعايتهم والاعتناء بهم «من قبل سكان المدينة، أو البلدة أو القرية التي ينتمون إليها، سواء أكانوا من سكانها الأصليين أم من القاطنين بها، ويحظر عليهم التسكع أو الاستجداء خارج نطاق المكان الذي ينتمون إليه.» بالإضافة إلى ذلك، نص هذا القانون أيضا على أن المراسيم الخاصة بإصلاح المستشفيات ستدخل حيز النفاذ، وهو ما يسهل قوله عن فعله، كما سيظهر ذلك مرة أخرى من خلال تكرار هذه الأحكام في العقود التالية.
في باريس، تكررت أول محاولة لاعتقال المتسولين، والتي تعود إلى عام 1526، في عام 1611 مع تأسيس، أو بالأحرى نشر، اللوائح الخاصة ب «مشافي الفقراء المحتجزين». وتولى العشرون رقيبا الذين جرى تعيينهم لهذا الغرض مهمة «القبض على جميع الفقراء الشاردين بالمدينة». المستهدفون بالطبع هم الفقراء المتشردون سليمو البنية، ولكن هذا لا يلغي القرار الذي ينص على إيواء العاجزين والمرضى الميئوس من شفائهم في مكان منفصل. من المرجح أن هذه المحاولة الأولى لاعتقال المتسولين على نطاق واسع في باريس كانت قد بدأت على نحو هزلي، استنادا إلى ما ورد في المذكرة الهجائية والمتبصرة إلى حد بعيد، والتي صدرت لاحقا بعد خمس سنوات تحت عنوان («مذكرة بشأن الفقراء المحتجزين»، 1617). أعدت القضية من خلال حملة ملصقات في زوايا الشوارع، لإلزام «المتشردين، والكسالى المتبطلين، والمتسولين والمستجدين، والأصحاء والعاجزين، والغرباء والأجانب» الذين ليسوا من السكان الأصليين لباريس؛ بمغادرة المدينة. ثم علقت لافتات جديدة وتم التنويه عن إعلانات في أثناء العظات التي ألقيت في الكنائس الرعوية تتعلق بإصدار أوامر استدعاء لأولئك الذين بقوا، مع التنبيه على ضرورة وجودهم يوم الثلاثاء في ساحة معرض سان جرمان في تمام الساعة الثامنة صباحا. وقد كان تعداد المتسولين في هذه المدينة، طبقا لما ورد في المذكرة القانونية المشار إليها سابقا، يتراوح ما بين 8000 و10000، ولكن لم يحضر منهم في اليوم المحدد إلا 91. وقد انتظر كل من رئيس مجلس النواب والنائب العام، اللذين ذهبا إلى الساحة، طوال اليوم ولكن دون جدوى. أما عن المتسولين، فقد رأوا أنه من الأفضل الاختفاء: «عد الأمر بمنزلة معجزة، أن ترجع المدينة خالية من الفقراء كما كانت، وأن ينسحب منها المتشردون، والسائلون المعدمون، والفقراء السيئون.» وفي نهاية المطاف، بادر الفقراء الأكثر احتياجا والذين يعانون من اعتلال صحي بتسليم أنفسهم في الأسابيع التالية، ليتم احتجازهم على النحو التالي: احتجز الرجال سليمو البنية في ضاحية سان فيكتور؛ حيث تم الشروع في بناء مشفى لا بيتييه (الرحمة)، بينما جرى احتجاز النساء والأطفال الصغار في ضاحية سان مارسيل بسيبيون، أما العاجزون، فقد وضعوا في الدور الصغيرة (التي سنتحدث عنها فيما بعد). يرجح أن العدد الإجمالي لهؤلاء المحتجزين كان 800، ثم زاد تدريجيا حتى بلغ 2200 في عام 1616. وهو ما يعد نجاحا، ولكنه نجاح نسبي، بالنظر إلى العدد الأصلي، وعلى وجه الدقة نجاح وقتي وسريع الزوال. فكما يلاحظ مؤلفنا المجهول ويقول مازحا : «الأشياء الجيدة تحدث دائما في البداية وتذبل وتضمحل في النهاية!» نظرا لأن الخدام والساسة قاوموا عمليات الاعتقال، قام المفوضون بالمكتب الكبير للفقراء بشن حرب إدارية على مديري مشافي المحتجزين، وإذا أضفنا إلى ذلك نقص الموارد المالية، فسنجد أن هذه الأسباب كانت كافية كي تفضي في نهاية المطاف إلى فشل عملية الاحتجاز في عام 1612. خلاصة القول أن العناصر المختفية عاودت الظهور بينما استعاد المحتجزون حريتهم.
لا يسعنا دون مجازفة استخلاص الكثير من هذه المذكرة المعادية بعنف للمتسولين الذين تكتظ بهم العاصمة، ولكنها تخبرنا من خلال هذه اللهجة الحادة بتفاصيل مثيرة للاهتمام بشأن الحيل التي يلجأ إليها المتسولون للتنكر والظهور بمظهر العاجزين أو المعوقين على النحو التالي: «البعض يظهرون في صورة كتع وقطع، أو عرج أو مصابين بقروح في أجزاء متفرقة من جسدهم، والبعض يجعلون بشرتهم تبدو وكأنها مشوهة، ويضعون على جلدهم دم بهائم، ويحدثون آثار انتفاخ وتورم ويرقان بفعل الكبريت، ويعرضون مناظر مخيفة لجسدهم، وبخاصة للأعضاء التناسلية، وغير ذلك من وسائل الغش والخداع التي لا نهاية لها، والتي يبتدعونها بهدف استغلال مصطلح «الفقر»، والاحتيال على فاعلي الخير لكسب تعاطفهم والاستفادة بالمكر والخديعة من إحسانهم، وخداع الجميع.» ومن هنا جاء تعريف ساحة المعجزات: «هي عبارة عن مكان أطلق عليه هذا الاسم؛ لأن أولئك الصعاليك المتسولين لا يبدون في الحقيقة عرجا ولا مصابين بقروح إلا خارج هذه الساحة.» تخبرنا هذه المذكرة أيضا عن جريمة تدنيس المقدسات التي تجاسر هؤلاء المتسولون على ارتكابها بمنتهى الوقاحة والسفاهة: «لقد كانت الكنائس والشوارع مكتظة بالجنود، والخدام العاملين في صفوف الجيش، والتابعين، والفلاحين، والرجال والنساء المتسولين، إلى الحد الذي يستحيل معه التحدث عن أي أعمال أو تلاوة الصلاة الربانية دون التعرض للمقاطعة ثلاث أو أربع مرات من قبل أولئك المتسولين، الذين كانوا يشكلون مصدرا للإزعاج والضيق بإلحاحهم الشديد، وما يطلقونه من شتائم وتجديف على اسم الله، وسباب بأقذع الألفاظ؛ وهو ما جعل الشعب يتمتم متسائلا باستغراب عن هذا العدد الكبير الذي يراه من المتسولين والشحاذين، وعن أقوالهم المليئة بنبرات السخط والتجديف والسباب بالألفاظ النابية والإهانات، وتراه لا يستطيع أن يصدق أنه يوجد آخرون في دور الحجز، فضلا عن إشاعة خبر، نشره بعض من الفقراء المذكورين، يفيد بأنه قد فتحت لهم الأبواب.»
منذ إصدار مرسوم مولان، لم تعد المشكلة باريسية فحسب، وإنما أصبحت «قومية». نذكر في هذا الصدد بيان ريشيليو الذي صدر في عام 1625 وقضى ب «ضرورة إحلال النظام وإقرار لوائح خاصة بالفقراء في جميع المدن التابعة للمملكة»، وكذلك المرسوم الملكي المعروف باسم «قانون ميشو» الذي صدر في يناير 1629 ونص على ما يلي: «في جميع المدن التابعة لمملكتنا، يتعين الالتزام بالنظام وتطبيق القانون في مدينتي باريس وليون، فيما يتعلق باحتجاز ورعاية وتغذية الفقراء»، بالإضافة إلى المرسوم الذي أصدره لويس الثالث عشر في عام 1639، غير أن صرامة هذا القرار الأخير (الحكم بالسجن مع الأشغال الشاقة) وجدت ما يبررها، أو على الأقل ما يفسرها في سياق حركات التمرد الشعبية التي هزت أرجاء المملكة (1635، 1636-1637، 1639 ...) في نهاية عهد الملك لويس الثالث عشر، بدا وكأن المتشردين والفقراء باتوا يمثلون «فئة خطيرة» أكثر من أي وقت مضى.
استجابة لهذه التعليمات المختلفة، قامت المدن الهامة في النصف الأول من القرن السابع عشر بتخصيص مشفى عام، مثلما حدث بداية في مدينة ليون؛ حيث أنشئ في عام 1614 المشفى العام. ذلك البناء الذي كان يعد نموذجا في عمل الخير والإحسان ومساعدة الغير، ولكن هذا لا ينفي أن الاحتجاز كان حقيقة واقعة، إضافة إلى العمل الإجباري (غزل الحرير) والنظام الصارم (العقاب البدني والحبس الانفرادي). ثم جاء الدور في عام 1641 على مدينة مرسيليا «لتجهيز دار للبر والإحسان بغرض حجز الفقراء المتسولين، الرجال والنساء والأطفال اليتامى وغيرهم من المحتاجين الذين لا يملكون أي وسيلة لكسب لقمة العيش بها، حيث تتم رعايتهم وتربيتهم في مخافة الله، ويتم تكليفهم بالأعمال المتوافقة مع قدراتهم.» كما شيدت العديد من المشافي العامة الأخرى في بعض المدن الأقل أهمية.
تأسيس المشفى العام بباريس
لا بد من دراسة المرسوم الصادر في عام 1656، في ضوء هذه الفترة الزمنية الطويلة، المليئة بمجموعة من الإخفاقات الجزئية المتتالية، مع الحرص على فصل ذلك المرسوم عما سبقه أو تبعه من مراسيم أخرى، التي لا يقل عددها، في الواقع، عن عشرين مرسوما ملكيا تقريبا، فضلا عن قرارات وأحكام المجالس النيابية التي حاولت - طيلة حكم النظام القديم، ولكن دون جدوى - حظر التسول وإصدار أوامر باعتقال المتسولين الأصحاء سليمي البنية.
كان عدد السكان في باريس يبلغ بالفعل 300 ألف نسمة. وقد كانت هي المدينة الأكثر اكتظاظا بالسكان في أوروبا والأكثر شهرة في الوقت نفسه. ولكن، كم كان عدد المتسولين في الشوارع وفي ساحات المعجزات؟ أهو 30 ألف؟ نجمت عن هذا الوضع مشكلة خطيرة تتعلق بالشرطة؛ ذلك أن المتسولين، من كثرة عددهم، أصبحوا أكثر جرأة من ذي قبل، فبدوا وكأنهم يطالبون بقوت يومهم أكثر من كونهم يستجدونه. بيد أن حالة الكلل والضجر العامة التي تفشت في أرجاء المملكة في أعقاب اضطرابات لافروند قد منحت السلطة الحاكمة فرصة استثنائية؛ لاستعادة السيطرة التي كانت متركزة في ذاك الوقت في أيدي الوصي على العرش، ومازاران، وكولبير أكثر من كونها في يدي لويس الرابع عشر الذي لم يكن عمره يتجاوز، في عام 1656، ثمانية عشر عاما. باتت الظروف مواتية، ولا سيما أن السلطة السياسية لم يكن عليها فرض إرادتها بقدر ما كان لزاما عليها إعطاء قوة قانونية للعمل الدءوب الذي تقوم به بعض الشخصيات، التي كرست نفسها - منذ الفشل الذي حدث في عام 1612 - لمشروع إحياء «مشافي الفقراء المحجوزين» الذي سيتخذ فيما بعد اسم المشفى العام. غير أن كلمة «فشل» ليست هي الكلمة المناسبة. إن مستشفى سان جرمان موجود منذ منتصف القرن السادس عشر، وقد أسفرت المحاولات التي بذلت في عام 1612 عن بقاء بعض الدور مثل: دار لا بيتييه (الرحمة)، وهي عبارة عن مأوى للعاجزات المسنات والأطفال، ودار سيبيون للمسنين العجزة أو ذوي العاهات والإعاقات، ودار بون سوكور (المعونة) للعاهرات، ودار سافونري؛ حيث كان يجري إلحاق الصبيان اليافعين بالعمل في مصانع السجاد والمفروشات. وتجدر الإشارة بشكل عابر إلى أنه أجري فصل صارم بين هذه الفئات المختلفة .
نامعلوم صفحہ