تاريخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
اصناف
إذا كان المجنون، في الكتاب المقدس، كائنا ضعيفا بين الضعفاء ومحبوبا من الله بشكل تلقائي وبديهي، فإنه يبدو الأكثر بعدا عنه: (قال الجاهل في قلبه ليس إله)، لدرجة أنه استحق اللعنة التي ذكرت في مستهل المزمور الثاني والخمسين من العهد القديم. يعد سفر المزامير هو الكتاب الأكثر قراءة في القرون الوسطى، وهو الكتاب الذي حظي بأكبر قدر من التعليقات والشروح والتفاسير والإيضاحات. كيف يمكن القول إن «الكائن لا يكون»؟ وحده الأحمق هو من يستطيع تأكيد مثل هذه الأكذوبة. غير أن مفهوم المجنون، أو الشخص غير الحكيم، بدأ يتخذ من وقتها معنى أكثر عمومية وشمولية. فأصبحت صفة الأخرق، أو المختل عقليا، الذي ينكر المسيح تطلق على الملحد أو اليهودي (في القرن الثالث عشر الميلادي). ولكن بالنظر إلى ما هو أبعد من ذلك، في سياق العقيدة المسيحية المترسخة، نجد أن المجنون، هو الإنسان الذي يحيا حياة التجديف والخطيئة، وذلك إحياء لمفهوم المختل عقليا عند العبرانيين؛ ومن ثم، سرعان ما يصبح مضيفا مميزا للشيطان. لم يكن من الممكن بالنسبة إلى مجتمع مسيحي مماثل ألا يعيد طرح تلك المعادلة العزيزة لدى ديانة العبرانيين والعهد القديم، والتي مفادها أن الخطيئة حماقة؛ والحماقة خطيئة.
لقد برز ذلك الربط بين الجنون والخطيئة في العصور الوسطى بشكل واضح وتجسد من خلال مثل العذارى الجاهلات والعذارى الحكيمات اللائي زينت تماثيلهن المنحوتة العديد من البوابات، وتيجان الأعمدة، ولوحات الجبهة والأقواس المعقودة بالكاتدرائيات. وقد وردت هذه القصة الرمزية في إنجيل القديس متى على النحو التالي: «حينئذ يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى، أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس.» العذارى الخمس الحكيمات (أي الحذرات، الفطنات) فكرن في أن يأخذن معهن زيتا في آنيتهن مع مصابيحهن. أما العذارى الخمس الجاهلات (أي الحمقاوات)، فلم يأخذن معهن زيتا. وفي منتصف الليل، عندما جاء العريس (المسيح)، وخرجت جميع العذارى للقائه، تنبهت العذارى الجاهلات فجأة أنه ليس معهن زيت لمصابيحهن، أما العذارى الخمس الحكيمات فقد تمكن وحدهن من الدخول إلى قاعة العرس، وأغلق الباب. وحينما جاءت أخيرا العذارى الجاهلات بعد أن أضأن مصابيحهن، رجون السيد أن يفتح لهن الباب، ولكنه أجابهن قائلا: «الحق أقول لكن: إني ما أعرفكن!» وانتهى المثل بتحذير متى الرسول لنا جميعا قائلا: «فاسهروا إذن لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان.»
إن التأصل التوراتي لإنجيل متى يظهر بوضوح في موضوع ذاك العرس. فقد شبه الأنبياء أيضا الله بالعريس الوفي لشعبه من بني إسرائيل. وشبه يسوع، الملتزم بهذا التقليد، ملكوت السماوات بعرس دعي إليه الجميع ولكن لم يدخله إلا المستعدون فقط. نجد، في مثل العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات، ما هو أبعد من التشدد الواضح في إنجيل متى؛ حيث تتجلى في هذا المثل صرامة العهد القديم وقسوته. فالسيد هنا ليس الحب ولا المغفرة. ويا لسوء حظ العذارى الجاهلات! فرفيقاتهن بالأمس؛ أي العذارى الحكيمات، لم يكن أكثر تعاطفا معهن، بل قلن لهن: «لقد أطلتن النوم!» يضاف إلى هذا أن الرؤية السائدة في القرون الوسطى كانت تبعث على التشاؤم. فالعذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات يجسدن ما سيحدث في يوم الدينونة الأخير؛ حيث سيتم التمييز في الحياة الأبدية بين الأبرار المختارين والملاعين الهالكين. في الركنين الأسفلين من القوس الأمامي لكاتدرائية سان دوني، نجد تمثالين، أحدهما لعذراء حكيمة والآخر لعذراء جاهلة. تقف الأولى على باب الفردوس، بينما تتأهب الثانية للدخول إلى الجحيم.
مجانين في حب الله
إضافة إلى جنون الخطيئة الذي ذكرناه سالفا، البعيد كل البعد عن المحبة المثالية الواردة في الإنجيل، نجد على النقيض الجنون الصوفي الذي يجسد الحب في أجلى صوره. «السلوك بزهد واتباع المسيح الزاهد»، هذا هو ما أوصى به القديس جيروم في أوائل القرون الوسطى. وهكذا نشأ مذهب مجانين في حب الله، وهم أولئك الذين يعيشون كنساك في الغابات، مجردين من كل شيء. ولم يكن هذا الشكل المتطرف من أشكال التدين يلقى بالضرورة استحسانا لدى مختلف الرتب الكنسية. في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، خاطب أسقف مدينة رين الفرنسية روبير داربريسل، مؤسس دير فونتيفرو بأسلوب غير ودي يخلو من التهذيب واللباقة معلقا على هيئته: «ثوب رث وحقير يستر جسدا كشطته المسوح، قلنسوة مثقوبة، ساقان نصف عاريتين، لحية شعثاء [...] (ثم يقول له) أنت تتقدم حافي القدمين وسط الحشود وتقدم عرضا مذهلا للحضور. بل يمكن القول إنه ينقصك فقط الإمساك بهراوة لتبدو كواحد من المجانين [المختلين].»
1
أصبح هذا الجنون المقدس موضوعا رائجا في أدب القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كما ازدهر بشكل عام لدرجة أن الغابات امتلأت بفرسان مجانين هائجين وعراة.
النهضة الروحية والإصلاح الديني على مستوى الإكليروس كانا كلاهما مستوحيين من جنون الصليب. يؤكد القديس برنارد، وهو أول رئيس لدير كليرفو (وقد ترهب في القرن الثاني عشر الميلادي): إن «المقياس الوحيد للحب هو أن تحب دون حدود» (من محبة الله). أما جيوم دو سان تييري، الذي كان ينتمي أيضا لطائفة السيسترسيين، وعاش في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، فيشدد على الطابع «الرائع» لجنون الصليب قائلا: إن «فطنة الراهب المبتدئ تكمن في وجوب أن يصبح أحمق وجاهلا في كل شيء من أجل المسيح.»
2
في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، أكد القديس فرنسيس الأسيزي الكلام نفسه حين قال: «الرب قال لي إنه يريد أن يجعل مني مجنونا جديدا في العالم، والله لا يريد أن يقودني بغير هذه الطريقة.»
نامعلوم صفحہ