226

تاريخ جنون

تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا

اصناف

وإذا كانت مانوني تبتعد عن مناهضة الطب النفسي المثالي (فالاعتقاد بأنه في وجود الحرية سيختفي الجنون هو اعتقاد خاطئ)، فإنها تعتقد بأنه من الممكن وجود تعاون بين «المواقف المناهضة للطب النفسي والأبحاث التحليلية.» كان هذا الأمر مستحيلا داخل مؤسسة الطب النفسي التقليدي، الذي هو مكان للحبس لا يهتم فيه أحد بخلق مؤسسة (مؤسسة التحليل النفسي) تهدف لتحرير التعبير. وتستكمل مانوني أنه على عكس الأطباء النفسيين - الذين يغارون من معرفتهم ويعطون تشخيصا لا يفعل المريض شيئا حياله - يكون المحلل «أكثر اهتماما بالحقيقة التي تخرج من وراء حوار المريض النفسي. وهو الأمر الذي سعى المناهض للطب النفسي (لاينج) للمحافظة عليه في صورة تحليل ولكن دون أن يصيغه بصورة واضحة؛ أي إنه صورة للمعرفة تنكشف عبر لغة «المريض» [...] فهو يسعى لوضع شروط تتيح لأقوال المجنون أن تخرج دون قيود.» وتشيد مانوني بالتجربة الإنجليزية (التي تقول بأن الهذيان عملية لاستعادة الشفاء)، والتي يرجع استحقاقها إلى أنها «اتبعت أقوال فرويد حرفيا».

سنلاحظ أنه من الآن فصاعدا، أصبح «هذا التساؤل الثاني» للجنون يتضمن الذهان بالطبع. ولم يرغب التحليل النفسي - المنتصر في ذلك الوقت - أن يكتفي بكلام الأنا لدى العصابي، وإنما أراد أن يهتم أيضا (بل وبالتحديد) بالأنا «المباشرة» لمريض الذهان. ولم يعد المثل الذي قاله فرويد عن ملك اسكتلندا وطريقته لمعرفة الساحرات قابلا للتطبيق. وفي ظل هذه الهوجة الضخمة المعارضة للطب النفسي في الستينيات والسبعينيات، لم يعد التحليل النفسي كما كان - بالضبط كما تنبأ فرويد عام 1939 - الأداة التي تقوم بكافة المهام للطب النفسي. وسرعان ما سينقلب الأمر إلى العكس.

وعلى عكس مناهضة الطب النفسي تحت حكم الجمهورية الثالثة الذي لم يجذب عددا كبيرا من المريدين، كان هناك تركيز إعلامي ضخم على الحركة خلال الستينيات والسبعينيات بسبب تأثر الرأي العام بها. في كل العالم الغربي، كانت هناك مؤلفات ولقاءات ومناقشات جعلت من مناهضة الطب النفسي والجنون محور الأحداث. كان طلبة مايو 1968 يقرءون بحماس أعمال ساس ولاينج وكوبر وفوكو وجينتيس ... ولم تكن هناك تجربة معارضة للطب النفسي لم تصبح هدفا للتقارير الصحفية (بل وتقارير ذاتية)، إلى جانب الدور الهام الذي لعبته السينما التسجيلية. ومن بين أوائل الأفلام التي ظهرت «نظرة إلى الجنون» (1962) بفضل الطبيب بونافيه الذي سمح بالتصوير في مصحته سانت آلبان بمنطقة لوزير. عام 1967، غاص فيلم «تيتيكاتفوليز» في أعماق مصحة بريدجووتر للأمراض النفسية بماساتشوستس. ولقد منع عرض هذا الفيلم لأكثر من خمسة وعشرين عاما. كان الفيلم هو أول عمل إخراجي لفريديريك وايزمان المولود عام 1930، الذي استكمل سعيه وراء سينما الحقيقة في كل مكان، في مستشفى عام أو في سجن أو حتى في مركز تدريب تابع للجيش. رفضت أمريكا الاعتراف بوجود مثل هذه الأماكن التي كان إرفينج جوفمان (1922-1982) - عالم الاجتماع الأمريكي - يدرسها ويصفها بالمؤسسات الكلية (والتي تمت ترجمتها إلى الفرنسية عن عمد إلى «المؤسسات الشمولية»).

63

وسعى جوفمان إلى إثبات أنه داخل المصحة العقلية - مثل السجن - يتأسس فصل تام لا يمكن تجاوزه بين الحراس والمحبوسين (ولا يعدو «المكان الحر» إلا التعبير المعارض له) عن طريق قوانين غير مكتوبة ولكن مطبقة بشدة لا تقبل أي تفاهم.

ظهر فيلم «الحياة في بونوي» في دور العرض عام 1970 و«مصحة الأمراض العقلية» (مجانين الحياة) عام 1972. ويبين لنا الفيلم الأخير بقيادة الطبيب لاينج الحياة اليومية لمجتمع الطب النفسي بأرشواي بلندن. وجذبت التجربة البريطانية الرائدة انتباه وسائل الإعلام بشدة. ومن بين رموزها كانت ماري بارنز - عملت ممرضة أثناء الحرب - ولكن تم احتجازها عام 1952 بسبب الفصام في مصحة هانويل. وبعد أن قرأت عام 1962 كتاب «الأنا المنقسمة»، اتصلت بالطبيب لاينج والتحقت عام 1965 بكينجسلي هول (كان الالتحاق يتم عن طريق التصويت بين الموجودين بالداخل). وهناك خضعت للعلاج التراجعي، الذي مهد لاكتشاف موهبتها في الرسم. وأصبحت فنانة كبيرة، ونشرت أعمالا كثيرة حول الفن والجنون وطفولتها. وكان الفصل الأول من كتابها «حسابان لرحلة عبر الجنون» يحمل عنوان «عائلتي اللطيفة غير الطبيعية».

لم تكن هذه الموهبة السينمائية وقتية أو مرهونة بالظروف، فقد استمرت ومعها مناهضة الطب النفسي، كما يشهد بذلك عقد مهرجان السينما التسجيلية النفسية عام 1977 بلوركان داخل المصحة النفسية القديمة بهذه المنطقة الصغيرة في اللورين. وحتى وإن لم يذكره التلفاز، فإن المهرجان لا يزال يعقد. عام 2005، أتاح لنا فيلم متوسط الطول لأرنو هوبين في تلفاز الإقليم الفلامندي أن نتواصل ثانية مع جيل (أحد رواد حركة مناهضة الطب النفسي): 33 ألف مواطن، من بينهم 550 مجنونا يعيشون في أسر تتبناهم ويقيمون هناك إقامة كاملة وليس مجرد إجازات، ويمرون على أربع عائلات متتالية خلال الفصول الأربعة ... عام 1982، قام ريموند دوباردون - الخليفة الفرنسي لوايزمان - بتصوير فيلم «سان كليمنت» على جزيرته المطلة على بحيرة فينيسيا، التي تشبه على نحو غريب سجن ألكاتراز. ولكن دوباردون كان في الأساس مراسلا ومصورا كما يظهر في الصور الرهيبة التي قام بتصويرها عام 1980 بمصحة ترييست للأمراض العقلية، حين كان بازاليا هناك. وتمتلك تلك الصور بالأبيض والأسود قوة هائلة تحركنا ولا يضاهيها أي كلام؛ ممر الحمامات لدى الرجال، وفناء منطقة النساء (الهادئات)، وتلك القاعة التي تضم هذا المجنون الخائر القوى، وفي الجانب الآخر توجد شجرة عيد الميلاد، وعلى الحائط كتابة بالطباشير: «عيد سعيد».

ومن جانبها، اهتمت السينما العادية أيضا بالجنون منذ «جنون الدكتور تيوب» (1915) لآبل جانس و«عيادة الدكتور كاليجاري» (1919). كما اهتمت أيضا بالتحليل النفسي ... كان «ألغاز الروح» (1926) هو أول فيلم يدور بأكمله حول هذا الموضوع. لم يرغب فرويد في مثل هذا الأمر (لم أعتقد أنه من الممكن التعبير فنيا عن أكثر ما بداخلنا تجريدا). كما تسبب مزيج السريالية والجنون في إنتاج «صفحة مجنونة» (1926) للياباني تينوسوك كينوجاسا، أحد أوائل أعمال مخرج فيلم «باب الجحيم». وكان ل «كهف الثعابين» (1948) - أول فيلم سينمائي مأخوذ عن رواية سيرة ذاتية وبالطبع مناهض للطب النفسي - صدى ناجح وكبير. وقد قام داريل إف زانوك بإنتاج هذا الفيلم للمخرج الأمريكي أناتول ليتفاك، بعد رفض العديد من المنتجين. ولقد قضى كتاب السيناريو ثلاثة أشهر في مختلف المصحات النفسية، وتلقوا النصائح من بعض الأطباء النفسيين ليتمكنوا من عرض قصة فيرجينيا المصابة بالفصام، والتي تروي لنا جحيم الاحتجاز والصدمات الكهربائية والطرق العلاجية النفسية المفزعة. ولقد أدت أوليفيا هافياند - الرائعة في الحقيقة - دورها ببراعة وتقمص لشخصية المريضة بالفصام. وحتى اليوم، لم يفقد الفيلم شيئا من قيمته بسبب اهتمامه بالتفاصيل والملاحظة والرسم الخلاب لشخصيات المرضى و«الذين يرعونهم».

كانت السينما تتأثر وتستلهم من حركة مناهضة الطب النفسي. ومن بين عدة عشرات من الأفلام، لن نذكر هنا إلا تلك الأفلام (الأساسية) التي تبدو غايتها المناهضة للطب واضحة للعيان، مثل «ممر الصدمة» (1963) لصامويل فولر، حيث يخطر لصحفي شاب فكرة رديئة بطلب الاحتجاز ليتمكن من عمل تحقيق صحفي؛ و«الحياة العائلية» (1971) لكين لوتش، وفيه تعيش جانيس - 19 عاما - جحيما بسبب ضغط الأسرة عليها نفسيا، وتقاسي لأنها تكون موصومة بالفصام (ولقد استلهمت شخصية الطبيب دونالسون «محامي الدفاع» من شخصية لاينج). كان عام 1975 عاما زاخرا بفيلم «قصة بول» لريمي فيريه، و«مجنون يطلق سراحه» لماركو بيلوتشيو، وخاصة «طار فوق عش المجانين» لميلوس فورمان المأخوذ عن رواية كين كيسي (1962). وتوالت أفلام أخرى: «فرانسيس» (1983)، و«بيردي» (1984)، و«الأشخاص الطبيعيون ليسوا مميزين» (1993)، إلخ. لكن لم يكن لأي منهم حتى اليوم قوة التعبير التي لماك ميرفي (جاك نيكلسون) في مواجهة كبيرة الممرضات المرعبة، الآنسة راتشد (لويز فليتشر)، في معركة خاسرة مقدما من الطرف المعزول، مجنون أم لا - لا نعرف الكثير عن هذا الأمر - ولكنه كان في جميع الأحوال ماكرا ووقحا مليئا بالحيوية في مواجهة مؤسسة الطب النفسي في شكلها الجديد الهادئ المبتسم، ولكن الذي لا يرحم والمجسد في صورة الممرضة. تم تصوير هذا الفيلم، الذي حاز على خمس جوائز أوسكار، في مصحة أمراض نفسية حقيقية (مستشفى سالم بأوريجون). كانت بعض الشخصيات من المرضى الحقيقيين، ولكن لم يسبق لفيلم ما أن قدم مثل هذا القدر من المعارضة للطب النفسي للجمهور العريض.

في عام 1961، نرى أيضا هذا الفيلم الشهير «البرتقالة الميكانيكية» لستانلي كوبريك، وفيه يندد بالمجتمع ذي المستقبل غير المعلوم ولكن القريب، ونرى فيه الدولة ترد بالعنف على عنف ألكس وعصابته من المجرمين. لم يكن هناك إعدام، ولا سجن، وإنما يتم إعادة تأهيل باستخدام طرق العلاج السلوكي نفسها التي كانت ترى النور في الولايات المتحدة (واتسون، سكينر) استنادا إلى مبدأ الاستجابة الشرطية التي أثبتها العالم الفسيولوجي بافلوف. وخلال هذه الفترة - التي اتسمت بالمعارضة الشديدة - لم يعد الطب النفسي القديم هو موضع الانتقادات، بل الحديث، وعلى الأخص النظرية السلوكية التي تقلص الطريقة التأملية الباطنية للعمليات العقلية لصالح طريقة السلوك كهدف أي فرد (مفهوم وظيفي). وعلى الرغم من النتائج الجيدة، ولا سيما في مجال علاج الخوف المرضي، يتهم العلاج السلوكي بأنه يجرد المريض من إنسانيته من قبل تيار جديد من علم النفس الأمريكي، وهو علم النفس الإنساني (كارل روجرز) الذي يسعى إلى إعادة الإنسان إلى مركز الاهتمام في مجال العلاج النفسي غير الموجه ولا الرنان، عاكفا على تنمية القدرة على القيام باختيارات خاصة لدى من يستشيره. ويسمى «القوة الثالثة»، إلى جانب طرق التحليل النفسي والعلاج السلوكي.

نامعلوم صفحہ