211

تاريخ جنون

تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا

اصناف

5

وأيضا في نهاية عهد الإمبراطورية الثانية، كان لجرسونيه - الذي ذكرناه قبلا (كلما ازدادوا مهارة؛ ازددت خوفا منهم) - بصمة أكثر استمرارية. فعلى عكس نظرائه الذين يروون أدق تفاصيل معاناتهم، تركزت مذكراته بالكامل حول ضرورة إصلاح قانون 1838، وذلك في ضوء فترتي الاحتجاز المتتاليتين اللتين تم علاجه خلالهما «بطريقتين مختلفتين». ويندد جرسونيه بتعسفية القانون (الذي يشبه بالفعل «شبكة العنكبوت») وبعجز الحامين الطبيعيين للمريض عقليا - أي عائلته - (فأين هي في النهاية؟) والقضاء (المخدوع إن لم يكن المتواطئ). كانت الآلة تدور بنفسها: «فتلك السلطة لا تتبع أحدا، أو بالأحرى تتبع الجميع.» ويذكر جرسونيه «هذه الآلات والاختراعات الحديثة» (كنا في عام 1869) ذات التروس الرائعة: «يكفي أن تعلق بها قطعة قماش، لتجر معها الفرد كله.» أما عن غاية الاحتجاز، «يا له من نفاق لغوي! لا تدع نفسك تقول إنه مريض، وإنهم يأخذونه ليعيدوه إليك قريبا وقد نال شفاءه. لا وألف لا! إنه ضحية، يعتقد أن التضحية به ضرورة للأمن العام.» ويختتم جرسونيه ببراعة وهو يقتبس عن الطبيب تورك: «إن فاعل الخير الحقيقي للبشرية، هو من يدمر عمل بينيل.»

وتضاعفت الشهادات بعد انهيار النظام الإمبراطوري، وحملت عناوين ضخمة: «نظام مرضى الاعتلال العقلي في فرنسا»، «مصحة شارنتون»، «جرائم تمهيدية للخارج»، «سرقات وتبديد»، «أفعال تعسفية»، «مفاسد إدارية منظمة من الداخل» ...

6

ويندد المؤلف - الذي يقدم نفسه كمريض هارب - بالمفاسد والمعاناة داخل المصحة العقلية، مشددا على الحرمان من الآدمية الذي تعانيه أي ضحية جديدة تدخل المصحة. أما عن أي وسيلة يمكن اللجوء إليها، فيقول: «إنه لا يوجد قانون ضد القانون!»

كان هذا ما ناضلت ضده إليزابيث باكار في الولايات المتحدة الأمريكية. فلقد تم احتجازها - وهي زوجة كاهن من أتباع مذهب الكالفينية - بناء على طلب زوجها بمصحة جاكسونفيل (إلينوي) من عام 1860 وحتى 1863. ويبدو أن السبب كان قصصا تعيسة عن اختلافات تتعلق بالمذهب (أو ربما كانت هي النهاية؟) أطلق سراحها بناء على طلب زوجها، ولكن تم حبسها في المنزل، وعندها قررت أن ترفع الأمر إلى القضاء بصورة مزدوجة ضد احتجازها الذي اعتبرته تعسفيا وضد السلطة العرفية.

7

وأصبحت تلك بالتحديد المعركة النسائية التي ستتذكرها الأجيال القادمة.

8

وفي نهاية المحاكمة التي نالت اهتماما إعلاميا واسعا، انتصرت إليزابيث باكار. وخلال جلسات الاستماع، بدا الطبيب الذي أعلن أنها مجنونة مضطربا: ففيما يتعلق بالخلافات الدينية بين الزوجين، يجب الاعتراف بأنه ليس خبيرا في اللاهوت. ويسأله القاضي: إذن ماذا كانت أعراض الجنون الأخرى لديها؟ فيرد الطبيب بسذاجة: «كانت تشعر بغضب شديد عندما نقول لها إنها مجنونة. وأظهرت عداء قويا لي حتى قبل أن أنهي الحوار معها، وكانت تعاملني باحتقار.» ولم تعترف المحكمة فقط بأن إليزابيث باكار سليمة العقل، بل أيضا حكمت بألا يكون هناك (في إلينوي) أي احتجاز دون قرار مبدئي من هيئة محلفين. إلا أن عددا من أطباء الأمراض العقلية والصحافيين الأمريكيين الذين تابعوا القضية لم يبدوا ارتياحا لهذا القرار. ففكرة اللجوء إلى هيئة محلفين ليست بجديدة، ولكن كيف للجنة مكونة من مجموعة مواطنين بسطاء أن تفصل في الجنون أفضل من طبيب؟ باختصار، فإن المناهضين للطب النفسي في ذلك الوقت لم يكونوا يريدون قضاة بقدر رفضهم للأطباء.

نامعلوم صفحہ