تاريخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
اصناف
ولكن، ما هي إذن الإنجازات التي ينسب الفضل فيها إلى أبقراط؟ يقول سيلسوس، الطبيب الروماني الذي عاش إبان حكم الإمبراطور أغسطس، والذي يعد أحد خلفاء أبقراط: إن هذا الأخير هو أول من فصل الطب عن الفلسفة. يعد هذا القول صحيحا ولكن به شيء من المبالغة، هذا إن أغفلنا المؤلفات السابقة مثل «الحكم الكنيديسية»، أو تأملات سقراط الذي كان معاصرا لأبقراط وقام أيضا بالفصل بين الطب والفلسفة. ومن جهة أخرى، ليس في الإمكان تجريد أبقراط تماما من لقب ذي وقع جميل؛ وهو لقب «فيلسوف»، عند قراءة إحدى الجمل التي كتبها في مؤلفه «الفصول» كما يلي: «العمر قصير، والصناعة طويلة، والوقت ضيق، والتجربة خطر، والقضاء عسر.»
ناموس الطب لأبقراط
ماذا عن أبقراط والطب؟ نال أبقراط شهرة واسعة في حياته واشتهر بالأكثر بعد مماته؛ لدرجة يصعب معها في أغلب الأحيان التمييز بين ما هو حقيقي وأصلي، وما هو خرافي وأسطوري. وتكمن ميزته الأساسية في كونه مؤلف 76 مقالة بحثية، جميعها تحمل اسمه، سواء أكانت مكتوبة بواسطته أم منسوبة إليه. وتجمع هذه البحوث كل المعارف الطبية التي وصلت إلينا نقلا عن مدرسة كوس. إضافة إلى كون أبقراط مؤسس الطب، فهو أيضا مشرع المبادئ الأخلاقية لهذا العلم. ما الذي يقدمه لنا ناموس الطب لأبقراط؟ يركز هذا الكتاب على العلاج ومتابعة تقدم المرض، مع التشديد على أهمية الملاحظة، وهي الكلمة الرئيسة، وتنحية الفرضيات جانبا. فلا بد من دراسة الوقائع وإدراك الروابط الموجودة بينها وبين أي شيء، بدءا بالتغذية (حيث إن أنواع الاضطرابات كافة إنما تنتج عن نظام غذائي سيئ). وهكذا أصبحت دراسة مسببات الأمراض أمرا بالغ الأهمية.
ترتكز الفسيولوجيا الأبقراطية بشكل كامل على نظرية الأخلاط البشرية التي تتمازج وتتغير داخل الجسم البشري، سواء في حالة الصحة أو في المرض. ما المقصود بهذه الأخلاط؟ يبلغ عددها أربعة، وهي: البلغم، والدم، والسوداء (المرة السوداء، ويقصد بها الدم المتخثر من الطحال)، والصفراء (عصارة المرارة)؛ ويقابلها أربعة أعضاء في الجسم وهي على التوالي: المخ، والقلب، والطحال، والكبد؛ بالإضافة إلى ارتباطها بأربع طبائع، وهي: البلغمي والدموي والسوداوي والصفراوي (المزاج الغضوب). كما أن هذه الأخلاط الأربعة تتوافق مع العناصر الأربعة (الماء، والهواء، والتراب، والنار)، وأيضا مع الخصائص الأربع (البارد، والرطب، والحار، واليابس)، وهي تلك النظرية التي كان منشؤها فلسفة إيمبيدوكليس. ويعتبر توازن الأخلاط شرطا أساسيا للتمتع بصحة جيدة، وذلك عن طريق الغلي [التسوية]: «التعرض للغلي يعني امتزاج الأخلاط بحيث يلطف بعضها بعضا وتسوى معا لتستعيد توازنها.» وحدوث اختلال في توازن الأخلاط من شأنه إصابة الجسم بالمرض.
تشكل المعرفة التي يملكها الطبيب أفضل ضمانة للمريض، ولكن «الطبيعة هي من تقوم بشفاء السقيم.» هذا بالإضافة إلى ذلك التحفظ الذي يعد أحد أعمدة أخلاقيات مهنة الطب: «إذا لم تستطع فعل الخير، فأقله لا تفعل الشر.»
وماذا عن الجنون في كل ما سبق؟ ورد ذكر الاضطرابات العقلية ضمن أربعين مرضا داخليا آخر في ناموس أبقراط الطبي كما يلي: التهاب الدماغ (أو الاهتياج)، الصرع، الهوس، السوداوية، داء الكلب أو السعار، و«الاختناق الرحمي» (أو الهستيريا). يظل التهاب الدماغ ممثلا للهذيان الكلاسيكي الحاد أو الجنون الحاد المصاحب للحمى. ويعد جنون النفاس (ظهرت هذه الكلمة في أواخر القرن الثامن عشر)، على سبيل المثال، أحد أنواع الاهتياج.
وقد وردت دراسة أكثر حداثة حول مرض الصرع في البحث الذي يحمل عنوان «المرض المقدس». «لم يبد لي أن هذا المرض يمتاز بشيء أكثر ألوهية وأكثر قداسة عن سائر الأمراض الأخرى [...] يرجع ذلك دون أدنى شك إلى انعدام الخبرة وروعة هذا المرض؛ مما جعلنا ننظر إلى طبيعته وسبب الإصابة به وكأنهما مظهران لقوة إلهية. وفي الواقع، لم يكن هذا المرض يشبه أيا من الأمراض الأخرى.» كما أن «هناك أمراضا أخرى، ولا أحد يعتبرها مقدسة، لا تقل إبهارا وإثارة للخوف عن سواها [...] رأيت أناسا مصابين باختلال العقل والجنون، دون أي سبب ظاهر، يقومون بالعديد من الأفعال الطائشة وغير العقلانية.»
ويشدد أبقراط (أو المؤلف الأبقراطي) بأسلوب حاد ولاذع على الفكرة نفسها قائلا: «أرى أن أولئك الذين يقرنون داء الصرع بالألوهية ينتمون إلى تلك الفئة نفسها التي ينتمي إليها الدجالون المدعون، والسحرة، والمشعوذون، والمتزمتون دينيا؛ الذين يريدون إيهام الناس بأنهم يعقدون صفقات مع الآلهة وأنهم يعرفون عن هذه الأمور أكثر من سائر البشر جميعا. أمثال هؤلاء اتخذوا من الألوهية ستارا يخفون به قصورهم وعدم أهليتهم.» فبإمكاننا معالجة الصرع بشرط تخير الوسائل المفيدة، «دون الحاجة إلى عمليات التطهير والحيل السحرية وكل ذلك الدجل والشعوذة.»
وقد وصفت نوبة الصرع على النحو التالي: «يفقد المريض صوته ويختنق، ويخرج زبد من فمه، وتصر أسنانه، وتتشنج يداه، وتحول عيناه، ويفقد وعيه بالكامل.» وبإمكان المرضى أن يستشعروا دخولهم في نوبات الصرع. أما عن علاقة الصرع بالمخ، فهو أمر يمكن تبينه بشكل واضح: «المخ هو أساس الإصابة بهذا المرض، كما هي الحال بالنسبة إلى جميع الأمراض الحادة الأخرى.» مما سبق يتضح أن البحث المعنون «المرض المقدس» ليس مجرد دراسة بسيطة عن مرض الصرع، بل هو أكثر من ذلك؛ فمنبع كل شيء هو المخ: «لأننا به نفكر ونفهم ونرى ونسمع ونميز بين القبيح والجميل وبين الشر والخير [...] كما أن المخ هو مصدر إصابتنا بالجنون والهذيان.»
فنحن نهذي عندما يكون المخ غير سليم؛ تماشيا مع الاعتقاد بأن المخ يكون رطبا للغاية ومتحركا من مكانه (مثل تلك الفكرة المتعلقة بالرحم). «طالما كان المخ مستقرا [بمعنى ثابتا في موضعه]، يحتفظ الإنسان بوعيه.» لا بد كذلك أن نفرق بين تضرر المخ الناتج عن تأثره بالبلغم البارد؛ مما يؤدي إلى إصابة المرضى بحالات جنون تجعلهم مسالمين «لا يصرخون ولا يهتاجون»، وبين التضرر الناتج عن تعرض المخ لدرجة حرارة مرتفعة بفعل الصفراء؛ مما يؤدي إلى إصابة المرضى بحالات جنون تجعلهم «صارخين ومؤذين ودائمي الحركة ودائمي الانشغال بفعل أمر خاطئ أو بإحداث ضرر ما.»
نامعلوم صفحہ