تاريخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
اصناف
لم تتوقف تأملات القدماء حول مرض الروح عند هذا الحد، ولكن المجال لا يتسع لاستعراض كل هذه الفكر. يرى لوكريسيوس أن الروح مادية فانية وقابلة للانقسام. ومن هنا تنبع خصوصية أمراض الروح. فهناك أمراض خاصة بها وهي: الهم، والغم، وفقدان الذاكرة، ولا سيما الخوف من الموت الذي يعد المرض الأصلي للروح نظرا لكونه «مرضا جذريا وأساسيا مرتبطا بجوهر الكائن ومتأصلا في شعوره بحتمية الموت» [جاكي بيجو]، هذا بالإضافة إلى أمراض الجسد ذات البعد النفسي مثل: هذيان الحمى والنوام (أو السبات) والسكر والصرع.
كان الرواقيون أكثر من تعمقوا في دراسة مرض الروح، فاعتبروه مماثلا للشغف. ورفضوا إقرار المفهوم الأفلاطوني الخاص بمثنوية الروح والجسد، وكانوا يرون أن الاثنين أشبه ب «ورقة ذات وجهين»؛ بحيث لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل أحدهما عن الآخر. بين العاطفة والشغف والرذيلة والجنون (بمعنى غياب الرقابة على النفس)، لا يوجد اختلاف في الطبيعة، وإنما في الدرجة. بعد أن تخلى بينيل بدوره عن الإيمان بمذهب المثنوية، تبنى هذه الفكرة بقوة؛ مما أنذر بتحوله من طبيب إلى فيلسوف. فقبل ظهور الطب النفسي وبروز إسهامات بينيل في هذا المجال، قام شيشرون الفيلسوف، في مؤلفه المعنون ب «مناقشات توسكولوم»، بفصل الجنون عن الجسد، خلافا لرأي الأطباء الذي كان سائدا في ذلك الوقت. ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الروح التي ينبغي أن تكون الفلسفة هي طبيبها. يتعين على كل شخص أن يكون طبيب نفسه؛ وبناء على ذلك، يمكن تعريف المجانين بأنهم أشخاص غير حكماء.
يشرح الفيلسوف الرواقي سينيكا - الذي عاش في القرن الأول الميلادي وكان يؤمن أيضا بمذهب وحدة الوجود (الواحدية) - أن «الروح ليس لها مستقر منفصل وهي لا تراقب العواطف من الخارج»، ولكنها تتحول هي نفسها إلى عاطفة. كما أوضح سينيكا في «رسالته الخمسين إلى لوكيليوس» أن صحة الروح ليست طبيعة فطرية، وإنما هي مرحلة الشفاء، قائلا إنه «ما من أحد لم يمر بالجنون قبل بلوغ الحكمة، فقد اجتاز جميعنا تلك المرحلة مسبقا: فتعلم المرء للفضائل يعني تخليه عن الرذائل.»
الهوى يسبب استلاب العقل، هذا ما تبينه التراجيديا؛ فميديا التي تخلى عنها جاسون بعد أن ارتكبت - بدافع حبها له - العديد من الجرائم، انتقمت بقتل أبنائها منه. وقد ألهم جنونها كلا من يوربيديس، ومن بعده بيير كورني، وديلاكروا الذي رسم لوحة قاتمة عن «ميديا الغاضبة». يقول يوربيديس على لسان ميديا: «أنا أعي ما هي الشرور/الجرائم التي سأرتكبها.» ولكن صوت أحشائها الملتهبة كان أعلى من صوت العقل لديها. لقد أصبحت شخصا آخر؛ «الآخر حل محل الشخصية الأصلية بصورة يتعذر كبحها. وهذا هو الاغتراب بعينه» (جاكي بيجو).
استغرق القدماء أيضا في تأمل الشفاء الفلسفي لمرض الروح؛ وهو ما أطلق عليه سوائية المزاج، وهي كلمة مشتقة من الأصل اللاتيني
De tranquillitate animi . يعرف سينيكا هذه الحالة: «بأنها روح تشعر بالهناء والتصالح مع نفسها»، وذلك نقيض الاكتئاب الجزئي [الذي يصاحبه الشعور بالضيق وعدم الرضا عن النفس]. ويرى جاكي بيجو أن سوائية المزاج تمثل ذروة تقدم الفلسفة نحو الطب. في الرواية الفلسفية «رسائل إلى أبقراط»، يجيب ديموقريطوس أبقراط قائلا: «إن المعرفة الفلسفية هي بمنزلة أخت الطب ويعيش الاثنان تحت سقف واحد»؛ فالفلسفة تخلص الروح من الأهواء، بينما الطب يخلص الجسم من الأمراض. بيد أن الطبيب يعد أهم من الفيلسوف؛ لأن صحة الجسد هي الشرط الأساسي لصحة الروح.
الفصل الثالث
التراث الأبقراطي
وأخيرا جاء أبقراط، شعرنا برغبة في صياغة الجملة على هذا النحو، حتى وإن لم تكن دقيقة من الناحية التاريخية. لقد عاش أبقراط، الذي لقب ب «أبو الطب» في الفترة ما بين سنة 460 و377 قبل الميلاد تقريبا. درس أبقراط - الذي ربما كان ابنا لأحد كهنة الإله أسكليبيوس - مع ديموقريطوس وجورجياس، ثم سافر عبر اليونان وآسيا الصغرى قبل أن يستقر في جزيرة كوس، موطنه الأصلي حيث مارس هناك الطب قبل أبقراط. ولكن قبل أبقراط، كان بعض الكهنة الأطباء وبعض الفلاسفة يدرسون الطب. وكانت توجد مسبقا مدونة بأسماء الأمراض والمصطلحات الطبية. وتمت بالفعل الإشارة في هذا الطب القديم إلى دور السوداء في بعض الأمراض. وقد ورد ذكر المرة السوداء وارتباطها بالجنون في أعمال المؤلف المسرحي أريستوفان؛ أي في المجال الاجتماعي والشعبي. وقد استبعد ديموقريطوس وأعضاء المدرسة الطبية بمدينة كروتوني فكرة تدخل الآلهة في تفسير ما يحدث في الكون والطبيعة. وبينما كان أبقراط لا يزال طفلا، وضع إيمبيدوكليس نظرية العناصر الأربعة (التي غالبا ما تنسب إلى أبقراط). ومن الجدير بالذكر أن إيمبيدوكليس نفسه قد استلهم هذه النظرية من فيثاغورث.
بالطبع، تشبع أبقراط بهذه الروح العلمية، فاستقر بداية في جزيرة كوس لتلقي العلم. «يذكر، نقلا عن إسترابون، أن أبقراط قد تدرب بشكل خاص على ممارسة الطب عن طريق دراسة قصص معالجة الأمراض التي كانت محفوظة في معبد كوس.»
نامعلوم صفحہ