135

تاريخ جنون

تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا

اصناف

كل هذا إلى جانب المرضى المصابين بأفكار العظمة والثراء. «فهذا مطرب في الأوبرا، وهذا لواء، بل إمبراطور يعتلي عرشا من ذهب»، «وهذا إله ، يمتلك الأرض بأسرها»، «وبسمارك يعمل لدى هذا كمساعد، واشترى له روسيا؛ ولذلك فعليه أن يرسل له مائة مليون.» دائما ما تكون محاور جنونهم مبالغا فيها، ويتكاثر المليارديرات مع الأباطرة على نحو طريف، مثل هذا المريض البالغ من العمر واحدا وأربعين عاما والمحتجز منذ عام 1890، والذي يعتقد أنه تعرض لسرقة «عدة مليارات بالإضافة إلى زوج من الأحذية الجميلة.» ففي مثل هذه الحالات قد تمتزج هلاوس العظمة وعقد الاضطهاد بسهولة، مثل هذا المريض ذي الأربعين ربيعا المحتجز عام 1880، والذي - بالإضافة إلى اعتقاده بأنه مايكل أنجلو (كان رساما على الزجاج في الحياة الواقعية) - كان يظن أنه سيد الكون، وكان يقول «إنهم سيرون قريبا، وإنه يجب أن يعترف الجميع بأنه القدير.» وبما أن أحدا لم يتعرف به، تبدأ فكرة الاضطهاد بالسيطرة عليه، ولا يكون عبارة عن اضطهاد سلبي يقوم على الشكوى، وإنما اضطهاد فعلي وانتقامي. ومن ثم ظهر نموذج «المعذب-المعذب» التقليدي الذي ينطبق على قسم المصابين بالهياج (فالحراس لا يقسمون المرضى إلا إلى مصابين بالهياج وغير مصابين بالهياج).

يصرخ ضحايا الهذيان ويومئون بإشارات مجيبين على هلاوسهم، حتى وإن رفضوا الاعتراف بهذا. فيقلبون ملاءات السرير ويمزقون مراتبهم؛ بحثا عن محور هلوستهم، ويتمرغون في التراب أو في الطين بحسب الموسم. يجرون فجأة بين الممرات وهم يصرخون أن الشيطان يطاردهم ليحملهم إلى الجحيم، وتكون صرخاتهم مفزعة ومخيفة. في بداية الخمسينيات، كان من يمر بالقرب من مصحة للأمراض العقلية، يعرف أن هذا المكان مخصص للمجانين: بسبب الصيحات التي تارة تكون متقطعة وتارة أخرى تتوالى كعاصفة من الصراخ.

يتنقل المرضى المضطربون من منطقة إلى أخرى، وينتهي المطاف بالأكثر هياجا بينهم مربوطين بسترات المجانين أو محتجزين في زنزانة؛ أي ينتهون إلى معرفة ما يسمى على استحياء ب «الالتزام الأخلاقي» عن طريق اختبار الوسائل العقابية المتنوعة. كما يمكن نقل بعض المجانين إلى مصحات أخرى، على الرغم من رفض المصحات استقدام المزيد من المرضى الذين تكتظ بهم جدرانها. ولقد وقعت حادثة عجيبة في مصحة بون سوفور عام 1872، حينما احتجزت شابة تبلغ عشرين عاما. ومن المعروف أن المشاعر العاطفية تخبو لدى المرضى بدليل لامبالاتهم بزيارات عائلاتهم. إلا أن والدة الشابة احتجزت هي الأخرى في المصحة، والتقت المرأتان في ساحة المريضات المسالمات. ولقد استحقت هذه الحادثة أن ترد في تقرير: «أثبتت هذه الفتاة التي التقت والدتها في مصحة بون سوفور خاصية شديدة الندرة، وهي أن المشاعر العاطفية لم تختف عند الأم ولا الفتاة؛ مما نتج عنه مشاهد حانية يومية كانت تتسبب في اضطراب باقي المصحة؛ الأمر الذي تطلب نقلها إلى مصحة بيجار.» كان من الصعب بالطبع عزل كل من المرأتين في زنزانة بسبب الحنان. «الالتزام الأخلاقي» «هناك عدة تساؤلات تطرح نفسها؛ أولا: هل معاقبة المريض عقليا أمر شرعي؟ ثانيا: هل من المنطق أن يعاقب مريض عقليا؟ إنه لا يعي أفعاله، ومن ثم فهو ليس مسئولا ويجب عدم معاقبته. تعد الرغبة في تطبيق هذه القاعدة مبالغة شديدة داخل المصحات. بالطبع، من غير المعقول، بل من اللاإنسانية توقيع عقوبة شديدة على المرضى عقليا بسبب الأفعال التي يرتكبونها. إلا أن غالبيتهم - في معظم الحالات - يعرفون جيدا أنهم يرتكبون عملا رديئا ولا يوجد علاج نفسي أو تأديب ممكن إذا شعروا بذلك.»

44

وسنلاحظ عودة مصطلح «العلاج الأخلاقي» مرة أخرى على استحياء، ولكنه مصحوب هذه المرة بنوع من الالتزام بأن تكون وسائله متنوعة ومتدرجة من حيث الشدة. في البداية، يأتي التوبيخ، والحرمان من التبغ أو التنزه أو من بعض الحلوى في الطعام أو من أي خرق للائحة أو لنظام الزيارات والعمل. كما يمكن نقل المريض المتمرد من منطقة المسالمين إلى منطقة المصابين بالهياج، بل والخرف، ولكن كثرة ممارسة هذه الطريقة كانت تتعارض مع فكرة تصنيف المرضى الذي يقوم على قاعدة طبية وليس تنظيمية. ولكنها كانت بالفعل عقابا رهيبا، ما عدا هذا المريض البالغ من العمر ثمانية وستين عاما والمصاب بهلاوس العظمة (1881): «إنه لا يسعد إلا في صحبة المصابين بالهياج، على الأقل - على حد قوله - يوجد من يتحدث!»

لا يتم الانتقال إلى الوسائل الأخرى القمعية بالمعنى الحقيقي للكلمة إلا بعد فشل كل هذه الطرق. عندما يصاب المريض بنوبة هياج غاضبة ومفاجئة، فيبدأ بسب الحراس والطبيب، ويهجم على زملائه، أو في حالات المصابين بالميل إلى التعري أو المصابين بهوس ممارسة العادة السرية. عندها لا بد من القيام بشيء، وهذا الشيء يكون سترة المجانين، المصنوعة من قماش قوي للغاية، وهي عبارة عن قميص مفتوح من الخلف بأكمام طويلة تتشابك من الأمام وتربط خلف الظهر. بهذه الطريقة، تمنع حركة اليدين، لا الساقين. ويمكن تثبيت سلسلة من العنق تتيح ربط المريض بفراشه أو في سور الساحة. إلا أن استخدام السترة ليس من دون خسائر، فهو يسبب جروحا خطيرة في الجلد الذي يحتك بالقماش القوى، بل وقد يتسبب في مشاكل بالتنفس؛ ولذلك، يوصى بعدم ارتداء السترة لفترات طويلة، على الرغم من كثرة استخدامها في المصحات الفرنسية (على عكس المصحات البريطانية؛ حيث يعوض عن تطبيق سياسة عدم القيود بوجود عدد أكبر من الزنازين). عادة ما يكفي التهديد باستخدام السترة أو أحد مشتقاتها: الكم الإجباري والبنطال؛ والأول هو عبارة عن سترة مصغرة لا تمنع إلا استخدام الأيدي، أما الثاني فهو زي أكثر تعقيدا يغطي الجسم كله، ويمكن تشبيهه بزي عمل ثقيل، ولكنه يسمح بشكل ما بحركة الذراعين في أي وقت. وبدافع طريف من الاهتمام بالجماليات والحياء، «تضاف تنورة إلى زي النساء، لئلا يرفضن ارتداءه.»

45

كما يوجد أيضا الكرسي الإجباري، والذي يطلق عليه أحيانا التسمية الجميلة «الكرسي المهدئ»، وكان يسمح، في صورته الأولى، بالسيطرة على المصابين بالخرف والقذرين على مدار يوم كامل. وإذا كان المرضى عقليا بارعين، فأطباؤهم كذلك، بدليل هذه الطريقة لتقييد القدمين للمرضى الذين ينزعون أحذيتهم باستمرار في الساحة المجاورة أو يستخدمونها كسلاح: وهي وضع قفل صغير يمنع خلعها.

كما يظل الدش أو الحمام، سواء أكان باردا أم ساخنا وطويلا أم قصيرا، وسيلة تقليدية للعقاب، أو بعبارات أكثر تهذبا «للالتزام الأخلاقي». أثناء الإمبراطورية الثانية، يتحدث مريض في الكثير من خطاباته الصادرة من مصحة بو: «عزيزتي، خرجت لتوي من إحدى أصعب المحن التي عذبتني، يسمونها الاستحمام الإجباري ، وأرجوك أن تتخيلي الماء وشكله التعذيبي المؤلم بصورة تفوق استخداماته أثناء محاكم التفتيش. تخيلي الصناديق الحديدية الطويلة المملوءة بالمياه المغلية أو المثلجة التي يجلسوننا فيها لخمس أو ست ساعات [...] يقبض عليك الحراس، ويدفعونك إليها ويرمونك بحيث لا تكون لديك أي فرصة للخروج واضعين فوقك غطاء من الحديد يشبه حد المقصلة [...] كل هذا يضاف إلى صرخات الضحايا الذين يلاقون إلى جوارك العذاب نفسه.»

46

نامعلوم صفحہ