تاريخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
اصناف
1 «وبمجرد رؤيتنا لبعض الأشخاص المحتجزين هناك على كراسي مربوطين بأحزمة وسيور، انشغل باقي المرضى في هدوء تام بالقيام بأعمال مختلفة، وإذا لم نكن بالفعل نعلم ما هو الوضع النفسي لهؤلاء البائسين لاعتقدنا أننا داخل إحدى الورش الصناعية العادية.» وقد حضر زائرنا تقديم الوجبات ومعها الشوك والسكاكين في قاعة الطعام. «رأينا النظام الرائع والصمت الذي يخيم على القاعة.» كان الخبز جيدا واللحم أيضا ومعه المرق. اتسمت المهاجع بالنظافة الرائعة، والسرائر النظيفة والمنظمة والأغطية الدافئة. «كم تغيرت الأوضاع إلى الأفضل!» كانت هناك أيضا نزهات في الهواء الطلق وأعمال صباحية، وأيضا أغان وموسيقى في المساء، وهكذا «انمحت الفكرة الثابتة في عقل المريض تدريجيا.» كان الشفاء أكيدا، ما عدا بعض الحالات الاستثنائية؛ ففي أي مرض دائما ما تكون هناك حالات مستعصية، يتطلب شفاؤها معجزة. ولكن يجب عدم المبالغة ...
كان الحماس في العلاقات أمرا مقبولا: «جميع المرضى دون استثناء - المستكينين والمصابين بالهياج - كانوا يستمتعون بالهواء الطلق والشمس والمساحة والحرية التي يشوبها الحذر، والتي تتناسب مع طبيعة هلوستهم ومتطلبات علاجهم ونظام المؤسسة. وتحت الشروط نفسها، كانوا يراسلون عائلاتهم ويتلقون زيارات من ذويهم وأصدقائهم.» الفراغ والخضرة و«المهاجع الممتازة وقاعات الطعام عالية النظافة» والأعمال المفيدة ووسائل الترفيه المسلية و«الانشغال بالعمل»؛ كلها كانت باختصار «الصورة الممكنة الكاملة للأحوال العادية للحياة العائلية؛ كانت هذه هي الصورة الحقيقية لمصحة الأمراض العقلية.»
2
هناك شكوك في أن واقع المصحة كان مغايرا تماما. بالتأكيد كانت الثقة في الدور العلاجي للمشفى العقلي في منتصف القرن التاسع عشر راسخة لدرجة تدفع إلى تخيل مثل هذه الصور المثالية الرقيقة (الصورة الحقيقية لمصحة الأمراض العقلية)، بل ويبالغ أحد الزائرين الموثوق بهم في التعبير عن رضاه عن المشفى لدرجة أنه يتساءل: «أين هم المجانين؟» إلا أن المرضى كانوا هناك بالفعل خلف الجدران العالية للمصحة، كما كان يمكن ملاحظتهم يوميا في بداية القرن العشرين، العصر الذي بلغ فيه علم الطب العقلي أقصى سرعاته في التقدم. وسنرى لاحقا من كانوا من الناحية الطبية ، إن كانوا يشفون أم لا إذا ما جرى احتجازهم لفترات طويلة. ويكفي الآن رؤية كيف كانت المصحات العقلية في ذلك العصر تنظم حياتها اليومية. «نظام ثابت وانتظام لا يتغير»
الفزع الحقيقي في مصحة الأمراض العقلية هو الفراغ. فيجب عدم ترك أي دقيقة من اليوم للمصادفة، فيجب إذن توجيه المرضى لكيلا يترك لجنونهم الفرصة في السيطرة عليهم. الأمر الذي يتفق عليه جميع أطباء الأمراض العقلية: «يجب أن يكون هناك نظام ثابت وانتظام لا يتغير داخل جميع أجهزة المصحة. فهذا الانتظام يجب أن يكون مشددا مثل حركة الساعة؛ بمجرد أن ينطلق يسير دائما دون توقف. ويكون لكل فترة من فترات اليوم مهمة وواجبات.»
3
يكون الاستيقاظ في السادسة صباحا خلال فصل الصيف وفي السادسة والنصف في فصل الشتاء (تختلف المواعيد بشكل طفيف من مصحة إلى أخرى). ويقوم الحراس والراهبات الممرضات بفتح أبواب المهاجع وغرف العزل. وإيقاظ المرضى ليس بالأمر الهين؛ فيجب عمل جرد سريع بالخسائر الليلية: ملابس ولوازم فراش ممزقة وخدوش في الأثاث والأشياء وأسرة متسخة. إنه «اختبار القش» (مرتبة القش)؛ حيث يجب التأكد من أنه لا توجد قشة واحدة على الأسرة. كما يجب مساعدة العاجزين والكسالى على الخروج من الفراش، والتأكد من أن من لا يزالون في فراشهم هم مرضى بالفعل وسيحولون إلى قسم التمريض، وليسوا متمردين. تتم مساعدة كل مريض على ارتداء جميع ملابسه «برقة وحزم». في جميع الأحوال، تشدد اللائحة على هذا الأمر. تخصص نصف ساعة للنظافة الصباحية. هناك مرضى يذهبون إلى لأحواض بمفردهم، ولكن يجب مراقبتهم لمنع أي تدافع أو شجارات، وأيضا لاكتشاف من يتظاهرون فقط بالاستحمام. وهنا تكمن أهمية دور الحراس، والذين أصبحوا ممرضين بالفعل الدلالي منذ بداية القرن العشرين. فيتعين عليهم إجبار المريض - دون عنف - على النظافة الشخصية الجيدة، دون إغفال أي منطقة: الفم والأذنين (فهناك مرضى اعتادوا الاحتفاظ ببعض القاذورات داخل القناة السمعية) والعيون والأعضاء التناسلية. ويجب عدم إغفال البحث عن أي طفيليات؛ «فالممرض الجيد يعرف من هيئة مرضاه إن كانت أيديهم قذرة، وأيضا ما بين أصابعهم وأعضائهم التناسلية؛ فهذا يعني أن الممرض مهمل وغير نظيف.»
4
وبينما يتم اقتياد المرضى إلى صالة الطعام، يجري تنظيف المهاجع والغرف بالمياه وإخراج القمامة ووضع المراتب والملابس المبللة لتجف، وأيضا تفريغ وتنظيف أوعية غسل الثياب وتطهير المراحيض ومحاولة إزالة الرائحة الكريهة الموجودة في كل مكان. يجب أيضا التأكد من أن الملابس ليست متسخة أو ممزقة؛ ولذلك فإن استهلاك الملابس والبياضات يكون هائلا. ويذكر تقرير صدر في منتصف القرن التاسع عشر: «هناك مرضى يحتاجون إلى تغيير الملاءات والملابس الداخلية يوميا، بل وقد يحتاجون إلى أكثر من قميص يوميا. ويوجد منهم من يتسبب في خسائر كبيرة: فيكسرون الفراش، ويحطمون الزجاج ويمزقون أحذيتهم وملابسهم ويلقون بها أو بطعامهم على الحائط.»
5
نامعلوم صفحہ