وبعد ذلك بعدة سنين حارب داود جليات جبار الفلسطينيين وقتله فحرك انتصاره حسد الملك فأخذ في تدبير الحيل لإهلاكه وحاول قتله مرارا، وقد أحبه يوناثان بن شاول وتعاهدا سوية على المحبة والإخاء إلى آخر حياتهما ورأته ميكال أخت يوناثان فشغفت به ومال قلبها إليه، وكان الملك قد وعده بإعطائه ابنته، غير أنه حنث بوعده وأخذ يفكر جهارا في قتله والتخلص منه، فأوقعه في أعمال خطرة منها أنه طلب منه مائة غلفة من الفلسطينيين مهرا لابنته ميكال فقتل داود منهم مائتين وصاهر الملك بعد ذلك.
ولما أخبره صديقه يوناثان أن أباه عازم على قتله هرب إلى أراضي الفلسطينيين ومعه سيف جليات، ولكنه لم يأمن شرهم وخاف على نفسه منهم فادعى الجنون وعاش عيشة عاص في أراض وعرة المسالك قرب اليهودية لا يعرفها أحد وجمع هناك زمرة من الأتباع الأشقياء الشاردين، وجعل والديه الشيخين تحت حماية ملك موآب لان يسي هو صغير راعوث الموآبية، وأحبط مساعي شاول في القبض عليه وسنحت له الفرصة بأن يقتل شاول منتقما منه لنفسه، إلا أنه لم يشأ أن يضع يده على مسيح الرب.
وقد رجع داود إلى فلسطين ومعه زمرة قوية من أتباعه وبقي هناك إلى أن قتل شاول وابنه يوناثان في واقعة جلبوع، وذلك نحو سنة 1055ق.م، فاعترفت به حينئذ قبيلته ملكا عليها فجعل حبرون (أي: الخليل) موطنا له، وأسف داود على موت صديقه يوناثان وأظهر في مرثاته عظم محبته له وتعلقه به وما كان يظهره يوناثان من صدق الولاء له بإخباره بعداوة شاول له وسوء تصرفه معه.
أما أبنير قائد جيوش شاول فنادى باسم ابنه أيشبوشث خلفا شرعيا على كرسي المملكة، غير أنه ما لبث أن مال إلى داود لما رأى من اتساع سلطانه وتزايد جنده وأعوانه، ثم قتل يوآب أبنير فأسف داود على قتل أبنير ورثاه أعظم رثاء، كما هو مذكور في التوراة في سفر الملوك وقتل الشعب إيشبوشث الملك، وكان داود قد انتقل بأمر إلهي إلى حبرون، حيث لاقاه رؤساء يهوذا ونادوا به ملكا على سبطهم، وبعد أن ملك سبع سنوات في حبرون اعترفت به الأمة الإسرائيلية ملكا عليها، وأخضع داود بقية الوثنيين ووسع نطاق مملكته من الفرات إلى البحر المتوسط ومن دمشق إلى الخليج العربي، وأقام قوات عسكرية للمملكة، وبعد أن طرد اليبوسيين من صهيون جعلها قاعدة لملكه فوسعها وأقام فيها المباني الباذخة الفخيمة والحصون المنيعة، وأخذ يكمل العبادة العامة وأتى بتابوت الرب إلى أورشليم ونظم خدمة الكنائس المقدسة، وكان يحيط به جمهور من الأنبياء والمرسلين، وكان عازما على بناء هيكل بيت مقدس للرب، فنهاه ناثان النبي؛ لأنه كان قد سفك دماء غزيرة في الحروب، وإنما وعده بأن الولد الذي يولد له هو يبنيه ووبخه على قتله أوريا الذي اتخذ زوجته بتشبع حليلة له وولد له منها سليمان الحكيم، وكانت شيخوخته محفوفة بالمتاعب والشقاء، وحدثت قلاقل كثيرة في بيته بسبب النساء وشهوات أولاده وأطماعهم.
وكان لداود ابن اسمه أبشالوم فشق عصا الطاعة لوالده وخرج عليه غير أن يوآب قائد الجيوش استظهر عليه وظفر به فقتله، فأسف داود لقتل ولده ورثاه أرق رثاء من عواطف أبوية وشفقة زائدة، وقام أدونيا ابنه الثاني بمؤامرة ضده ففشل في مسعاه وأعلن سليمان وارثا للملك، ولم يمض حين بعد هذه الحوادث والاضطرابات حتى توفي داود شيخا متقدما في السن بعد أن حكم على إسرائيل ما ينيف على 33 سنة، وأسس لملوك العبرانيين دولة ثابتة متينة الأركان، ووسع حدود مملكته وتركها عند مماته قوية عظيمة.
وقد كان داود شاعرا مجيدا ذا أفكار سامية ومعان جميلة، كتب مزامير كثيرة غاية في البلاغة، والمرثاة التي رثا بها شاول ويوناثان هي وحدها كافية للدلالة على أنه كان شاعرا كبيرا نشيطا ذا قوة فكر يندر وجودها في غيره، وفي شعره ما يشف عن سريرته وأحواله، ويوضح عن أعماله وقد جمع في أخلاقه بين قساوة الرجل وحنو المرأة، فإن الرجل الذي قتل جليات الجبار وأصلى نار الحروب يرثي يوناثان بكلام يرق له الجماد شفقة وحنوا، والذي أخطأ ببتشبع ولعن من أعدائه يبكي خطاياه بخشوع عظيم ويبارك لاعنيه والمتمردين عليه، وكفاه فضلا سفر المزامير المملوء حكمة وعقلا، وقد تركه للعالم للتعزية وللأفراح وللأحزان والمواسم والأعياد ينير العقول ويرشدها إلى طرق الصواب والهدى، وقد تفنن علماء النصرانية بترجمته ونظمه واستعماله في العبادة، وهذا مثال مما نظم للكنائس البروتستانية.
المزمور الأول
1 طوبى لمن لم يتبع مشورة الأشرار ولم يكن بواقف في طرق ذي الأوزار
2 ولا يكون مجلس الهازي له قرار لكن بناموس العلي يسر باستمرار
3 يلهج في ناموسه في الليل والنهار يكون مثل شجر في جانب الأنهار
نامعلوم صفحہ