تعليق على ما جاء بسطر 3 صفحة 6 جزء أول من ابن خلدون
إن ما ذكره ابن خلدون في هذا الموضوع لا يخرج عما اصطلح عليه المؤرخون القدماء مستندين فيه على التوراة، ولكن المؤرخين اليوم قد عدلوا عن هذه الروايات، وعن القول بأن سام وحام ويافث هم آباء البشر الحقيقيون، وأن سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الزنج، إلى غير ذلك. وإذا ذكروا هذه الأمور فإنما يذكرونها وفقا للتوراة وللتقاليد القديمة، ومن باب العلم بالشيء ولكنهم لا يعتقدونها. فأما الطوفان فإنهم يعتقدون بوقوع حادث عظيم من هذا القبيل - إن لم يكن عم الأرض كلها فلا شك في أنه غمر جانبا منها - وذلك لأنه وجدت روايات تشابه خبر الطوفان عند الأمم الأخرى.
وقد أجمع المسلمون والنصارى واليهود على وقوع الطوفان لورود ذكره في كتبهم المنزلة وزعم «اوسيليوس» العالم اللاهوتي الإنجليزي من رجال القرن السادس عشر للمسيح أن الطوفان وقع سنة 2348 قبل المسيح، وتابعه في ذلك المطران الفرنسي «بوسويت» وذهب «كلنتون» الإنجليزي إلى أن الطوفان إنما وقع سنة 2482 وهؤلاء ممن يعتقدون أن العالم وجد قبل المسيح بأربعة آلاف سنة. ومن المعلوم أن هذه الروايات مردودة اليوم عند جميع علماء أوروبا - تقريبا - وهؤلاء يقولون بمئات ألوف من السنين مضت على وجود الإنسان، فضلا عن وجود المادة الأرضية نفسها وفى القرآن لا يذكر عدد السنين التي مرت على الإنسان، وإنما يقول الله تعالى:
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم
وهو أصح الأقوال. وقد روى بيروز الكلداني رواية تشابه رواية الطوفان، وهو أن الملك «كيزوتروس» نجا بسفينة صنعها لنفسه عندما غرق جميع النوع البشري. وجاءت رواية عن اليونان بأنه وقع فيها طوفان في القرن الثامن عشر قبل المسيح، وكذلك طوفان آخر في السادس عشر، وأما بيروز الكلداني فقد كتب تاريخ بابل في أقدم الأعصر، وأخذ عنه يوسيفوس اليهودي.
فأما تقسيمات البشر إلى سلالة حام وسام ويافث، فقد قام مقامها اليوم تقسيمات أخرى، فقالوا سلالة العصر الحجري، وسلالة العصر الحديدي ، وسلالة عصر سكب الرمل، وجعلوا تاريخ ظهور البشر على حسب التغييرات الجوية، وتقلص الجليد التدريجي فإنهم استدلوا بالآثار الباقية في الأرض على مرور الإنسان ببعض البقاع في عصر من الأعصر، مما يدل على أن تلك البقعة كانت قد أصبحت صالحة للسكنى، على حين أن غيرها في ذلك الوقت كان لا يزال غير قابل لسكنى الإنسان، فالأرض هي التي يصح أن يقال إنها أم البشر، وإنها واضعة التقسيم بين السلائل البشرية. وليس ذلك من سام وحام ويافث كما قال الأولون.
وذهبوا إلى أن الإنسان قطع من الحيوانية الدنيا إلى أن صار إنسانا - شبيها لما هو اليوم - عشرات ألوف من السنين، حتى قالوا: إن السلالة المسماة نياندرتال “Neanderthal”
عاشت نحوا من مائتي ألف سنة، وأنه لما بدأ العصر الجليدي الرابع يضمحل أمام أحوال جوية أميل إلى الاعتدال ظهر نوع جديد يظنون أنه بدأ ظهوره في جنوب آسيا أو شمال أفريقيا أو في الأماكن التي غمرها البحر المتوسط فيما بعد، وأنه مضى مئات من القرون حتى كملت أعضاء هذا النوع الجديد الذي سماه علماء السلالة البشرية بالإنسان السابى “Homo-Sapiens”
وهذا النوع البشري في جمجمته وأيديه وأسنانه وعنقه يشبه تماما الإنسان الحالي. ويذهبون إلى أنه ربما كان قد وجد سلالات أخرى غير هذين النوعين، وربما يكون قد وجد أنواع متوسطة بينها وبين النوع الإنساني الحاضر. وقد وجدوا في كهوف «كرومانيون
Cro-Magnon » هياكل أجسام بشرية ترجع إلى نهاية العصر الحجري، وهي تامة الخلقة، فأطلقوا على هذه السلالة اسم سلالة كرومانيون، ووجدوا آلات من الصوان ومن الصدف مع هذه الأجساد، كما أنهم وجدوا في مغارة غريمالد بقرب منتون جنوبي فرنسا هياكل أجساد بشرية لأجساد الزنوج اليوم، فترجح وجود سلالتين بشريتين في ذلك العصر الأقدم يختلف أحدهما عن الأخرى، فسلالة كرومانيون ربما كانت منحدرة من سلالة غريمالد، ويجوز أن يكون في ذلك الوقت قد بقيت بقايا من سلالة نياندرتال.
نامعلوم صفحہ