وإذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا، لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عبادة ليحملهم على مصالحهم، ويردهم عن مضارهم، وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة علية. ثم إن الوجود شاهد بذلك، فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم، وقل أن يكون الأمر الشرعي مخالفا للأمر الوجودي.»
فلعمري ليس بعد هذا القول مجال لقائل، فإنه القول الذي لا يحسن بعده المراء وإن هذا الدين هو دين العقل لم يقم بالأسرار غير المفهومة، ولم يمتحن أتباعه بما تعيا به العقول، ولا بما لا تظهر فيه وجوه المصالح. وهو كما قال ابن خلدون: لا نجد فيه الأمر الشرعي مخالفا للأمر الوجودي. ولا يمكن أن يتقدم فيه المرجوح على الراجح، وكل معترك هذه المسألة هي القدرة على حماية الإسلام، وإقامة الشريعة على وجهها، فمن كان أضلع بهذا الأمر من غيره بين المسلمين فهو الذي يريده الله ورسوله قياسا على ما لدينا من قواعد الشرع الأخرى التي هي ومبادئ العقل توأمان متلازمان.
مذهب النشوء والارتقاء
تعليق على ما جاء بسطر 21 صفحة 4 من الجزء الأول من ابن خلدون
قول ابن خلدون إن النسابين كلهم اتفقوا على أن الأب الأول للخليفة هو آدم عليه السلام كما وقع في التنزيل ... إلخ. هذا ما كان عليه الناس في القرون الوسطى التي عاش ابن خلدون في آخرها، وما لا يزال عليه المتمسكون بالأديان في عصرنا الحاضر، ولكن علماء هذا العصر في العلوم الكونية - وإذا قلنا علماء هذا العصر في العلوم الكونية فإنما نعني بهم علماء أوروبا - قد عدلوا عن نظرية ابتداء العائلة البشرية بآدم وحواء، وعما يقوله اليهود والنصارى من أن عمر البشرية خمسة آلاف أو سبعة آلاف سنة، ورجحوا - ولكن بدون جزم - أنه مضى على وجود العائلة الإنسانية على وجه الأرض نحو من مئة الف سنة! وذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك فقدروا لوجودها مائتين وثلاثين إلى مائتين وأربعين الف سنة! وقد وقعوا لأجل ذلك في مشكل من جهة تطبيق هذه النظريات على التوراة، فمنهم من حل هذا المشكل برفض التوراة بتاتا وهؤلاء هم الفئة التي لا تقول بالأديان، والفئة المسماة بالإلهيين وهم الذين يعتقدون بوجود الصانع ولا يقولون بالنبوءات.
ومنهم من بقي متمسكا بالديانة المسيحية، ولكن مع الاعتقاد بأن التوراة دخلها تحريف كثير، وأن فيها كثيرا مما أدخله اليهود.
وهذه الفئة تشابه أقوالها أقوال علماء الإسلام الذين يقولون التوراة كتاب منزل لا شك فيه، ولكن اليهود قد حرفوها - بل بدلوها - إلى أن صاروا يقولون من جملة الأمثال: «توراة مبدلة» وبالاختصار لا يوثق بالنسخ الموجودة منها بين أيدينا. وكذلك يضعفون كثيرا من الروايات الواردة عن السلف الصالح بحجة أنها منقولة عن أحبار اليهود، ويسمون هذا الضرب من الروايات الكونية والقصص (بالإسرائيليات) ويقولون إنها أدخلت في الإسلام وليست منه. فما يقوله المسلمون عن التوراة المبدلة وعن الإسرائيليات هو بعينه الذي يقوله العلماء العصريون في أوروبا الذين لا يقدرون أن يطبقوا بين ما جاء في التوراة عن بدء الخليفة، وبين ما يقرره العلم الحديث، وهم مع ذلك لا يريدون أن يفارقوا العقيدة النصرانية التي فارقتها الفئة المعطلة، والفئة الأخرى التي يقال عنها الإلهيون.
وهناك الفئة الثالثة التي لا تقبل التأويل والتخريج في التوراة، ولا ترضى بأن يقال إن فيها من أوضاع اليهود - وبالتالي فليس من التنزيل - كما أنها لا ترضى بأن يقال إن الكتب المنزلة إنما تخاطب الناس على قدر عقولهم وتتجنب التصريح بما هو فوق أفهامهم خشية الفتنة وإدخال الشك على العقائد. فهذه الفئة الثالثة هي الفئة المتدينة الباقية إلى اليوم على العقائد التي كانت عليها النصرانية في القرون الوسطى، وهي التابعة للكنائس سواء كانت الكنيسة الكاثوليكية أو الأرثوذكية أو البروتستانتية التي يقال عنها الإنجيلية، ومن هذه الفئة السواد الأعظم في الحقيقة من الأوروبيين والأمريكيين. وهم يقولون بأن البشر تناسلوا من آدم وحواء وفقا لما في التوراة، ويردون مذهب النشوء والارتقاء الذي يرده أيضا أناس كثيرون من الفئة المعطلة ومن الإلهيين، لا من إجراء مخالفته للدين، بل من ضعف الأدلة اللازمة للقطع به، وانخرام كثير من الحلقات التي يفترض وجودها بين الحيوان والإنسان، أو بين الإنسان في أصل تكوينه والإنسان الحالي. وفقد هذه الحلقات وعدم وجود أثر لها في الآثار الحفرية هذا لا يساعد على الجزم عندهم بمذهب النشوء والارتقاء الذي غلب عليه اسم المذهب الدارويني نسبة إلى «دارون» وهو عالم طبيعي من علماء الإنجليز مات في أواخر القرن التاسع عشر للمسيح.
ولما كان تاريخ ابن خلدون مما يصلح لكل الأعصر بالنظر إلى ما فيه من قواعد أبدية، ونظريات في الخليقة والخلق لا تخلق ديباجتها، ولا تنقضي حقائقها، ولكنه كتب منذ خمسة قرون طرأت في أثنائها على المجتمع الإنساني أفكار جديدة، ومبادئ ناقضة لما سبقها، ونظريات لم تكن معروفة في أيام ابن خلدون، أو كانت معروفة ولكن عند غير أتباع الأديان الثلاثة: الإسلام، والنصرانية، واليهودية.
وكان لا بد للناشئة الجديدة من الأمة الإسلامية من أن يطالعوا ما جد من هذه النظريات المحدثة، ويقارنوها بالنظريات القديمة، فلم نشا أن نمر بهذا الموضوع بدون أن نشير - ولو بجملة مختصرة - إلى ما علية العلماء الأوروبيون، حاشا أتباع الكنيسة من جهة أصل وجود الإنسان على وجه الأرض.
نامعلوم صفحہ