ومنهم جماعات تفرقوا في سائر الأقطار. وأناس ذهبوا إلى الإسكندرية، وكانت الدولة أسكنت منهم جماعة في الجبل الأخضر من برقة ولكن مهاجرتهم الكبرى وقعت بعد الحرب العامة، وانعقاد مؤتمر لوزان سنة 1923 وفيه تقررت مبادلة السكان، فأخرجوا جميع المسلمين الذين في الرومالي، أي في البلاد اليونانية من أوروبا وفي الجزر وكريت من الجملة، وقرروا إسكانهم في تركيا، وبمقابلة ذلك أخرجوا جميع الأروام الذين في بلاد الأناضول بدون استثناء، فلم يبق في تركيا رومي واحد إلا من كان غريبا، ولم يبق في بلاد اليونان مسلم واحد إلا عابر سبيل وقد حصلت مبادلة الأملاك والأراضي أيضا، وإنما وقع استثناء للأروام الذين في الأستانة، فإن مؤتمر الدول في لوزان لم يشأ إخلاء القسطنطينية عاصمة الروم القديمة من المسيحيين، فأبقوا فيها الأروام الذين لم يهاجروا من تلقاء أنفسه، وهم مئة وخمسون ألف نسمة وأبقوا في مقابلة ذلك الأتراك الذين في ولاية تراقية الغربية، أي الولاية التي إلى الغرب من أدرنة، وذلك لأن الأتراك المذكورين هم أكثرية هذه الولاية، ولم تكن لهم رغبة في المهاجرة.
وأما في جزيرة كريت، فلم يبق مسلم واحد، ولا في سائر جزر الأرخبيل الرومي ما عدا رودوس وأخواتها التي احتلتها إيطاليا في أثناء حرب طرابلس الغرب، ثم استلحقتها نهائيا، فهذه الجزر لم تتبع قاعدة تبادل السكان لكونها خرجت من ملك تركيا واليونان معا، فلا يزال عشرة آلاف من المسلمين في جزيرة رودوس، وبضعة آلاف في سائر الجزر العشر “dedocanaire”
وذلك تحت حكم إيطاليا. وانطوى بساط كريت كما انطوى بساط الأندلس بعد أن ملكها المسلمون ثلاث مرات، الأولى ي زمن بني أمية في دمشق، والثانية عندما احتلها ثوار قرطبة تحت إمارة عبد العزيز بن شعيب، والثالثة في أيام الدولة العثمانية، والله يرث الأرض ومن عليها.
وقد عرفت من أعيان كريت المسلمين رجلين، أحدهما أحمد نسيمي بك ناظر الخارجية العثمانية في أيام الحرب، وهو من أعز إخواني، وأمثل من عرفت في حياتي وأحسنهم أخلاقا، فضلا عن ذكائه وسعة إطلاعه، وكان يحدثني عن كريت الأحاديث والآخر فاضل بك أحد أعيان المسلمين في قندية، وقد كنت أسأله مرة عما يقال من حسن جزيرة كريت وزكاء تربتها، ولذة فواكهها وطيب نجعتها فقال لي: جميع ما تسمعه من هذا القبيل عن كريت هو الواقع، وربما أقل من الواقع، ولكن لا يوجد في الدنيا أكثر شرا من أهلها. وفزيلوس الوزير اليوناني المشهور كان هو العامل مع دول الحلفاء في خلع قسطنطين ملك اليونان كما لا يخفى وفي أخريات هذه الأيام ترأس ثورة على الحكومة اليونانية وهو قد بلغ من الكبر عتيا.
وفي زمن السلطان عبد الحميد ساءت الأحوال في مكدونية، لأن السلطان كان أكثر همة في المحافظة على شخصه، وكان شديد التخيل إلى درجة الوسواس. فاستكثر من الجواسيس، وصار بأيديهم تقريبا الحل والعقد، وليس من الصحيح أن السلطان كان يعمل بموجب تقاريرهم كما هو شائع، بل كان يرمي أكثرها ولا يصدق ما فيها، ولكن اهتمامه بقضية أخبار الجواسيس ألقى الخوف في قلوب الرعية وصارت في قلق دائم وأصبحت الناس تبالغ في الروايات عن الجواسيس فساءت سمعة الحكومة، وسخط الرأي العام على هذه الحالة، وبرغم ما كان السلطان يعفو ويصفح، ويجود ويمنح، كانت سمعته بعكس ما كان يفعل. وذلك بسبب كثرة الجواسيس وحصولهم على الحظوة عنده، فصار الناس يعللون جميع خطوب المملكة بسوء الإدارة، ويعللون سوء الإدارة بانتشار الجواسيس وفقد الحرية. وهذا وإن كان صحيحا إلى حد محدود، فليس بصحيح على إطلاقه، لأن خطوب المملكة كانت لها أسباب داخلية وخارجية، لا نذكر قضية الجواسيس في جوانبها شيئا. فأما العوامل الداخلية فهي انحطاط درجة التعليم عما يجب أن تكون واستيلاء الجهل، وانقسام سكان المملكة إلى أقوام شتى كل منها له هدف غير هدف الآخر، ومنها ما هو عدو عامل لا يرضيه إلا زوال الدولة العثمانية. ثم ما وقر في صدور الناس أجمعين من قرب أجل هذه الدولة فصارت أشبه بالمريض الذي انقطع الأمل من شفائه.
فأما العوامل الخارجية فهي مطامع الدول الأوروبية في أجزاء هذه السلطنة كل دولة منهن تحب أن ترث شقصا من هذه التركة فهي تدس الدسائس في البلاد التي هي مطمح نظرها حتى تتوصل منه إلى مأربها.
ولو كان سهم واحد لا تفيته
ولكنه سهم وثان وثالث
بل وكانت الأسهم التي تتلقاها الدولة العثمانية مما لا يعد ولا يحصى، ولكن المسلمين في السلطنة نظرا لمعرفتهم أن هذه الدولة هي ملجؤهم الوحيد، كانوا لا يريدون أن يعتقدوا زوالهم، فكانوا يتأوهون من جهة لحالتها هذه، ويجتهدون من أخرى في إصلاحها، ويظنون أن الإصلاح ليس بالمستحيل، وأن في استطاعة الدولة أن تنهض وتسترجع مكانها السابق، وذلك إذا كان السلطان يقلع عن سياسته الخاصة وعن حصر الأمور في يده، ويترك الاهتمام بالجواسيس، ويطبق على المملكة القانون الأساسي الذي كان بدأ به في أول سلطنته ثم عطله تعطيلا مؤقتا، فاستمر هذا التعطيل ثلاثين سنة. وكان الشبان على الخصوص يعتقدون أن لا نجاة للمملكة من السقوط إلا بإعادة الدستور، وانتخاب مجلس الأمة، وكان لذلك المهد كثير من رجالات الأتراك المتشبعين بمبادئ الحرية قد هجروا بلادهم وأقاموا بباريز وصاروا ينشرون نشرات ينتقدون فيها الحكم الحميدي ، ويبثون روح الثورة بين الناشئة، فكان السلطان يجتهد في إسكات هذه الفئة التي كانت تشوه سمعته في العالم الأوروبي، وكثيرا ما كان يتمكن من إرضاء أناس من هؤلاء الشبان بتقليدهم مناصب عالية، أو بإغداق النعم والعطايا عليهم، ولكن بقي هناك من هذه الفئة من كانوا لا يبيعون من السلطان سكوتهم، بل لبثوا يرفضون جميع ما يعرض عليهم من أموال أو مناصب. وكان في طليعة هؤلاء أحمد رضا بك المقيم بباريز، والذي كان يصدر جريدة حرة باسم «مشورت» تدخل إلى البلاد العثمانية سرا، والدكتور ناظم الذي كان من أركان جمعية الاتحاد والترقي - وشنقه مصطفى كمال من عهد قريب - وغيرهما.
ولما كانت الجمعيات الأرمنية بطبيعة الحالة تميل إلى إسقاط السلطان عبد الحميد مدت أيديها إلى هؤلاء الأتراك الذين كانوا قد هجروا أوطانهم إلى أوروبا، وشرعوا في التحريك لأجل إعلان الحكم الشورى في تركيا. وكان بعض المسيحيين من سورية مشتركين أيضا في هذه الحركة، وكل فئة من هذه الفئات كانت لها أغراض غير أغراض الأخرى في الحقيقة، ولكنها كانت تجتمع في نقطة واحدة وهي، مقاومة السلطان، والعمل لإسقاطه، وأخيرا انتدب بعض شبان الأتراك وألفوا جمعية سرية في سلانيك، وسموها «جمعية الاتحاد والترقي» وأخذوا يجتذبون على جمعيتهم كل الوطنيين المخلصين الذين قدروا على اجتذابهم برغم شدة المراقبة، حتى أن بعض المستخدمين في الحكومة انضموا إلى هذه الجمعية، وكانوا يجتمعون في المحافل الماسونية حتى يتقوا الشبهة فيهم. وكان معظم اجتهاد هذه الجمعية السرية متوجها إلى استجلاب الجيش حتى تصير في أيديهم القوة اللازمة لخلع السلطان، وتوفقت هذه الجمعية إلى استجلاب عدد كبير من الضباط، ولما كان عصائب البلغار واليونان يعملون بدون انقطاع في بلاد الرومللي، وكانت الدولة تسوق عليهم العساكر لأجل تطهير بلاد الروملي منهم، وكانوا يعملون في جوار سلانيك، تسنى لرجال الاتحاد والترقي أن يتصلوا بضباط الجيش، وأن يقنعوهم بأن هذه العصائب البلغارية واليونانية إنما تشاغب وتعثوا في الأرض لأجل الحصول على إدارة حسنة يستريح في ظلها السكان وهذه الإدارة غير ممكنة ما دام السلطان عبد الحميد على عرش السلطنة فأما إذا أمكن خلعه، وجعل الحكم في السلطنة دستوريا شوريا كم هو في سائر الممالك المتمدنة فإن جميع هذه المشاغبات تنتهي من نفسها، وتخلد جميع الأقوام إلى السكينة وهكذا تنجو السلطنة العثمانية من خطر السقوط المحدق بها. فشرب أكثر الضباط هذه المبادئ التي ليس بعجب أن تقبلها عقولهم، لأن المسيحيين من أروام، وبلغار، وسربيين كانوا يدعون أنهم لا يلجأون إلى الثورة إلا من سوء الإدارة وأنه إذا اصطلحت الإدارة فهذه تكون غاية أمانيهم، ويدخلون في الطاعة.
نامعلوم صفحہ