تاریخ حرب بلقان اول
تاريخ حرب البلقان الأولى: بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني المؤلف من البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود
اصناف
وإن عدم استطاعة المنصورين منع القتال والنهب وسائر الفظائع لا يمكن أن يعود عليهم بالسمعة الحسنة. ولست أعزو إليهم العزم على إبادة العنصر الإسلامي عمدا، ولكن هذا ما جرى تقريبا، وسيندم الحلفاء لأن مقدونيا باتت الآن شبه «بيضة فارغة»؛ بلادا أكلها السيف والنار وأقصى عنها أهلها المسلمون حراث الأرض، بسبب ما نالهم من الضيق والفاقة، وكثير من الذنب على الحلفاء أنفسهم.
إن الحرب وأخذ البلاد إنما يبرران إذا عادا بالخير والرخاء على أهل تلك البلاد. ومن الممكن - وإن يكن ليس من المؤكد - أن تبديل الحكام يعود بالفائدة على أهل مقدونيا المسيحيين، ولكن من الواضح وضوح النهار أن الحرب لم تفد المسلمين بتاتا، وخرابهم لا بد أن يكون عظيم الضرر على مستقبل البلاد.
ولست أزعم أن الترك كانوا بريئين من الجرائم والفظائع في الماضي أو أنهم لم يسفكوا دما بريئا في الأشهر القليلة الماضية، على أنه لا يمكن أن يكون ميزانان ومقياسان. وصحف أوروبا وفي جملتها صحف إنكلترا التي ذمت فظائع الترك في أزمانها شديد الذم صمتت في هذا الوقت صمتا غريبا.
لطالما احترم الشرقي وخصوصا التركي الرجل الإنكليزي ووثق به لما اشتهر عنه من حب العدل والإنصاف، ولكني أخشى أن يكون هذا الاعتقاد آخذا في الزوال، وعندي أن شعور التركي بذهاب روح العدل والإنصاف من الإنكليزي إنما يستأصل بالإلحاح في طلب تحقيق تلك الفظائع ومعاقبة المجرمين.
إني لم أشترك في البحث والتحقيق اللذين أفضيا إلى نشر هذا التقرير، ومهما يبد الناس من الشك في صحة جميع التفاصيل المذكورة فيه، فإنه يبقي ما يكفي ليحملنا على الأمل أن أوروبا التي كانت سريعة التصديق لأنباء فظائع الترك لا تنبذ جانبا تلك الأدلة المعروضة عليها نبذ المستخف بها.
وخطب لورد كرومر في مجلس اللوردة عند تناقش المجلس في مسألة ذبح الجنود البلقانية غير النظامية للمسلمين فقال:
مهما تكن نتيجة الحرب فإني لا أشك أن المسألة المقدونية تبقى بيننا، فقد كان الناس يرجون ويؤكدون أنه متى زال الحكم العثماني من مقدونيا لم نعد نسمع بالمذابح، ولكن خابت آمال الذين يظنون أن الجهاد في سبيل المسيحية هو جهاد في سبيل المروءة والفلاح، وإني أبرئ الحكومة الإنكليزية من كل تهمة إهمال، ولكن لا يسعني إلا المقابلة بين الغيظ الشديد الذي كان بعض الطبقات يظهرونه في بلادنا لما كانت المسألة مسألة ذبح الترك للمسيحيين، وبين ما يظهرونه الآن من شدة الجمود لما صارت المسألة مسألة ذبح المسيحيين للترك.
تلك قطرة من بحر عن الفظائع التي صبغت هضاب البلقان بدم الإنسان، وجلبت على مرتكبيها من العار ما لم تجلبه فظائع القرون الوسطى؛ لأن أهل ذاك الزمن كان لهم عذر الجهل والهمجية، فما هو اليوم عذر أهل هذا العصر الذين طلعت عليهم شمس العلم وقاموا يدعون المدنية؟
إنا طالعنا بحكم مهنتنا الصحافية جميع الأعذار التي انتحلها أصدقاء البلقانيين لهم، وهي تنحصر في ثلاثة وجوه؛ أولها: أن جنود الأتراك والباشبزق فتكوا بالبلقانيين في سالف الزمان، فلا تجد بلغاريا ولا صربيا ولا يونانيا ولا جبليا إلا ويسمع من والديه وأجداده وجداته أقوالا تشيب الأطفال قبل الرجال، ولا يفتح صحيفة من صحائف تاريخه إلا ويجد فيها ما يضرم نار الحقد في صدره على تركيا. والثاني : أن جميع الجنود في معظم الحروب لم يسلم شرفها من المذمة، ولم يخل تاريخها من أخبار القسوة والحوادث المؤلمة في إبان تحمسها. والثالث: أن ما نشر عن تلك الفظائع كان فيه غلو كبير، وأن العصابات هي التي اقترفت معظمه فلا يصح أن ينسب كله إلى الجنود المنظمة.
فنقول في الوجه الأول: إن مثل من ينتحل لهم هذا العذر مثل من يبرئ السارق أو القاتل؛ لأن أناسا آخرين سرقوا وقتلوا، ثم إن البلقانيين ادعوا دعوى عريضة يوم زحفهم، وهي أنهم يريدون رفع المظالم والمغارم عن رعايا تركيا في مقدونيا، فكيف يجوز لمن يدعي تلك الدعوى أن يظلم الأبرياء والضعفاء، وينهك الأعراض، ويتفنن في ارتكاب الفظائع؟ فهم ينهون عن خلق ويأتون مثله، وهو عار كبير.
نامعلوم صفحہ