تاریخ حرب بلقان اول
تاريخ حرب البلقان الأولى: بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني المؤلف من البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود
اصناف
غير أنه برغم ذاك التدبير أخذ الأهالي يحتاجون إلى الخبز في أواخر أيام الحصار كما روى قنصل فرنسا. ويظهر من حديث والي أدرنه أن هناك أناسا كانوا يخبئون المئونة.
وصفوة ما يقال من هذا القبيل: إن أهالي أدرنه إذا كانوا لم ينجوا من المضايقة والمخاوف الشديدة بسبب إطلاق المدافع واحتراق المنازل وتهديم بعضها، فإنهم لم يقاسوا ما قاساه الباريسيون الذين اضطروا إلى أكل الفئران في حرب السبعين.
أما الوجهة الحربية فإن المراسلين وغيرهم أعجبوا بها وعدوها مفخرة لشكري باشا ورجاله، وأول ما نذكره للدلالة على دفاع أولئك الشجعان القساور شهادة ضابط صربي لمراسل الديلي تلغراف في بلغراد - والفضل ما شهدت به الأعداء - قال ذاك الضباط: إن شكري باشا لا يعرف التعب، ولا يترك للمحاصرين ساعة يستريحون فيها، بل كان سحابة الليل والنهار يرقب حركاتنا وسكناتنا حتى اعتقدنا نحن الصربيين والبلغاريين أن الرجل بطل كبير ووطني صادق، وصرنا نحترمه ونقدر قدره بعد ما رأينا من أفعاله، ولقد هرب في الأسبوع الماضي مائتان من الحامية وسلموا إلينا في الجهة الشرقية، فلما سألناهم أطنبوا في مدح شكري باشا والثناء على همته وبسالته، وقالوا: إنه كان يقضي معظم وقته في جامع السلطان سليم ويراقب منه حركات الجنود البلغارية والصربية. ثم ختم الضابط الصربي حديثه قائلا: «إن الدفاع عن أدرنه وأشقودره يزين صفحة جميلة من صفحات التاريخ العسكري العثماني.»
وقال مراسل التيمس: «إن عظمة العثمانيين وعزة أنفسهم في الأوقات المحزنة، لم تبلغا في وقت من الأوقات الدرجة التي بلغتاها في أدرنه، وإن اصفرار وجوه الحامية، وملابسها البالية الممزقة لدليل على الشدة التي قاستها في أواخر أيام الحصار.»
وأنشأ المارشال فوندر غولتز مقالة دافع فيها عن شكري باشا وقال: «إن أدرنه شرفت العثمانية بقدر ما حطت كارثة قرق كليسا من شأنها، وهذا قول يجب التصريح به لمن يهمهم أمر الوطن العثماني حتى يعلم أبناء العثمانية خاصة والناس عامة أن الجندي العثماني هو أقوى جنود الأرض طرا، بشرط أن ينال حقه من المأكل والمشرب والملبس والعدة الحربية، وها إن التاريخ يضم اليوم إلى صحائفه التي تكتب عن الحرب البلقانية صفحات الخطأ والانهزام الشائن الذي حدث في قرق كليسا، وصفحات الجوع وخلل إدارة الميرة في لوله بورغاز، ولا ينسى صفحات الفخر الكبير لقائد أدرنه وقائد بانيا، ولأسعد باشا الذي حارب تسع ساعات ونصفا وهو لا يملك ذخيرة ولا ميرة، فإذا كانت المصائب تعلم الأمم وكان صحيحا أن الأمة لا تصلح خللها إلا بعد كارثة شديدة، فإن الواجب على العثمانيين أن يعتبروا بما فات ليبرهنوا للعالم أنهم قريبون من الحياة الحقيقية.»
وقرأنا في الجرائد الفرنساوية التي صدرت في النصف الأول من شهر أبريل الماضي أن عددا كبيرا من الفرنساويين عقدوا اجتماعا في باريس تحت رئاسة الموسيو بويش وزير الأشغال الأسبق، فألقى الأستاذ ألفريد دوران خطبة عن تركيا وحالتها، ثم طلب إلى الحاضرين أن يوافقوه على إرسال كلمة إعجاب لشكري باشا فوافقوه بإجماع الآراء بين الهتاف والتصفيق، وكلفوا السفير العثماني أن يبلغ شكري باشا إعجابهم وميلهم العظيمين «للبطل الذي يجب أن تكون شجاعته ومقاومته مثالا لمن يشغفه حب الوطن في ساعة الخطر.»
وروت التان: أن البلغاريين أنفسهم لقبوه «بأسد أدرنه». •••
حسبما تقدم من الشهادات الأجنبية، ويجدر بنا أن نذكر لخدمة التاريخ انتقادا وجه على ذاك البطل المقدام، وهو أنه لم يخرج أيام المعركة الفاصلة في لوله بورغاز، مع أن مثل هذا الخروج كان يمكنه أن يفيد الجيش العثماني فائدة كبيرة؛ لأن النصر بقي يترواح يوما كاملا بين البلغاريين والعثمانيين، وممن أشار إلى هذا الإحجام خليل بك والي أدرنه حيث قال: «إن القائد العام طلب من شكري باشا عند ابتداء معركة لوله بورغاز أن يعد جيشا ويخرج به من أدرنه ليقطع خط الرجعة على البلغاريين ، فأبى شكري باشا لاعتقاده أن إنقاص الحامية يفيد العدو.»
ثم نقل خالد بك رواية لأحد أمراء البلغار قال فيها: «لقد خفنا وصول المدد من أدرنه، وأخذنا نستعد للتقهقر في لوله بورغاز، ولكنا أردنا أولا أن نستطلع طلع الأتراك، ولما علمنا أنهم تركوا مواقعهم وأن أدرنه لم ترسل إليهم نجدات عدنا إلى التقدم.»
على أن مراسل التيمس في تراقيه بعث بمقالة عن حصار أدرنه ذكر فيها أن شكري باشا لم يقصر في الخروج، وأنه لما فشل في الانضمام إلى الجيش بعد نشوب القتال في قرق كليسا، كان السبب في فشله انقطاع الأخبار لعدم وجود «قلم مخابرات»، فهو قصد إلى الجهة التي كان يظن العدو نازلا بها فوجدها خالية فذهبت حركته أدراج الرياح، ثم خرج غير مرة قبل تشديد حلقة الحصار، وحدث عند تقهقر العثمانيين أنه خرج أيضا وكاد الأعداء يدخلون القلاع من خلفه، ولكن رفعت باشا أدرك مقصدهم وجمع الطوبجية المسلحين بالقرابينات؛ (لأنه لم يكن يثق بالرديف)، وزحف بهم إلى الجهة التي تقدم منها البلغاريون، فانخدع هؤلاء بهجومه وفشلوا في اغتنام الفرصة، فتمكن عندئذ شكري باشا من الرجوع إلى مواقعه.
نامعلوم صفحہ