تاریخ حرب بلقان اول
تاريخ حرب البلقان الأولى: بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني المؤلف من البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود
اصناف
أما خسارة البلغاريين فيقول الكولونل بوكابيل: إنها بلغت في اليوم المذكور 10000 رجل بين قتيل وجريح، وأما خسارة العثمانيين فقد كانت عظيمة إلا أنها أقل من خسارتهم، والمستفاد من أقوال الاختصاصيين عن تلك الوقعة أن البلغاريين لم يكونوا راغبين في هجمة عامة فاصلة، بدليل أن جانبا من قواتهم لم يقتحم نار القتال، بل أرادوا أن يعرفوا مبلغ القوة العثمانية فتحول عملهم إلى معركة دموية كبيرة عرفوا منها أن الجيش العثماني المرابط هناك لا يسهل قهره. وكانوا يعلمون فوق ذاك كله من الوجهة السياسية أنهم وإن دخلوا الأستانة لا يستطيعون البقاء فيها؛ لأن الدول حتى روسيا حامية الصقالبة تضطرهم حينئذ إلى تركها، فعلام إذن يفنون معظم جيشهم عند بابها؟! أجل إن أخذها بالسيف يسهل عليهم اشتراط ما يريدون من شروط الصلح، ولكن ما يستفيدونه لا يضاهي ما يخسرونه على افتراض أنهم يفلحون.
وزد على ذاك كله أن المفاوضات في شأن الهدنة كانت جارية بين الأستانة وصوفيا، فقد روى رئيس تحرير الماتين إن كامل باشا كتب إلى ملك البلغار نفسه في هذا الشأن، فليس من الحكمة ولا من أصالة الرأي أن يواصلوا القتال ما دامت يد السياسة تعمل على إغماد السيف.
لتلك الاعتبارات ولعلمهم في يومي 17 و18 نوفمبر أن الجيش العثماني الذي قابلهم في جتالجه هو غير الجيش الذي قاتلوه وقهروه في قرق كليسا ولوله بورغاز، ولكون طبقة 1912-1913 من جنودهم لم تصل ولم يكونوا ينتظرون وصولها قبل أواخر نوفمبر؛ قرروا أن يتقهقروا إلى مواقع تبعد عن مواقع العثمانيين مسافات تختلف بين 5 و7 كيلومترات على ما جاء في كتاب الكولونل بوكابيل، وكان تقهقرهم على مهل في 19 و20 و21 من نوفمبر تحت حماية مدافعهم ومؤخرتهم، وكان العثمانيون يلاحقونهم ويناوشون الفرق المتأخرة منهم، وقد دهش قواد الجيش العثماني من هذا التقهقر؛ لأنهم كانوا يتوقعون هجمات ترخص فيها الأرواح ولا سيما في جهة الفيلق العثماني الثالث. وكان ناظم باشا القائد العام برغم هذا النجاح يهتم كل الاهتمام بإنشاء خطين جديدين للدفاع وراء جتالجه؛ لأن ثقته بالنجاح النهائي لم تكن قوية راسخة. (4-8) جرح محمود مختار باشا في جتالجه
تقدم لنا أن الفيلق الثالث الذي كان يقوده محمود مختار باشا فعل أفعالا توجب له الثناء الجميل؛ فجدير بنا أن نخص قائده الباسل بكلمة مستمدة من أقوال الماجور فون هوشوختر الألماني الذي كان معه في جتالجه، قال ما خلاصته:
سرت مع محمود مختار باشا وكمال بك وكاظم بك وصلاح الدين بك وناظم بك قاصدين الخط الأول؛ لأن الباشا أراد أن يرى بعينه طريقة تنظيم الدفاع، وكان الرصاص يصفر فوق رءوسنا واتفق أنا رأينا بعض أفراد متقهقرين فدفعناهم إلى الأمام، ثم تقدمنا عدوا على جيادنا وصفير الرصاص لا ينقطع فوق رءوسنا حتى وصلنا إلى مأمن عند الحصون. وإنا لواقفون هناك إذا بعدد من الجنود المشاة نهضوا واقفين حولنا فصاح فينا ناظم بك «البلغار البلغار»، فلحظت القبعات الروسية على مسافة عشرين مترا منا، ثم وقف ضابط بلغاري وقال: «مكانكم ...» وكان قريبا مني إلى حد أني أستطيع معرفته إذا وقف اليوم أمامي، فأدرت عنان حصاني ورأيت محمود مختار باشا وكمال بك يعدوان إلى الجهة اليسرى، وصلاح الدين يعدو أمامي وكاظم بك ورائي، وبعد قليل وقع صلاح الدين عن جواده فظننت أنه سقط قتيلا، ثم سمعت وقع جثمان فالتفت فإذا كاظم بك على الأرض، ثم حولت نظري إلى الباشا فرأيت جواده مقتولا وهو يمشي كالأعرج، ولم يكن في وسعي أن أمد له يدي؛ لأني كنت مستهدفا كل الاستهداف للعدو من الجهة اليمنى، وفي تلك الساعة خرقت رصاصة «قلبقي» العثماني، ثم غاب الباشا عن نظري فذهبت عدوا إلى طابور رئيسه يفهم الألمانية، فكلفته أن يذهب إلى الجهة التي كان فيها الباشا ليأتي به، وإذا كان قتيلا فليتلقف جثته من العدو ولا يرجع إلا بها، فوضعت الجنود حرابها في بندقياتها وهجمت مسرعة، ولكني لم أجد للباشا أثرا، وبعد البحث عنه نحو نصف ساعة وجدته على الطريق المؤدي من الحصن إلى المستشفى النقال، فلا تسل عن سروري برؤية رئيسي فإني لشدة فرحي وقفت أنظر إليه ولا أنبس ببنت شفة، وأظنه أدرك معني نظرتي ثم تصافحنا بلا كلام، وكان مصابا بثلاث رصاصات وعلى رأسه «قلبق» طبيب وعلى كتفيه عباءة جندي، وعلى وجهه دلائل الألم الشديد، وعلمت أنه لما أصيب بالرصاصة الأولى بعد قتل حصانه لم ينقطع عن السير، ولكنه لما أصيب بالرصاصة الثانية رمى بنفسه إلى الأرض، ولبث حينا طويلا تحت نيران العدو، ثم تقدم إليه جندي رث الملبس فطيب نفسه وحمله على ظهره مسافة 500 متر، ثم ألقاه في محل أمين وراء ربوة، وبينما كان في طريق الأستانة التقى بعزت باشا رئيس أركان الحرب فانحنى عزت باشا وقبله في جبينه، ولما وصل إلى المعسكر العام استقبله ناظم باشا والضباط الذين كانوا هناك، ثم نقل إلى الأستانة حيث كان ينتظره 200 من أصدقائه، فعملت له عملية في المستشفى الألماني أسفرت عن النجاح. (4-9) الضباط الألمانيون في جتالجه وغيرها
كثر عدد الألمانيين الذين هرعوا إلى مساعدة الجيش العثماني ولا سيما في جتالجه، فمنهم البكباشي هوشوختر (أو هوخوختر كما تلفظ بالألمانية) وهو صاحب التأليف الذي مر ذكره، والقائم مقام فون لاسوف الذي كان مع أركان حرب عبد الله باشا، ثم استلم قيادة آلاي في جتالجه بناء على طلب محمود مختار باشا، والكولونل توتبشفسكي الذي تولى مراقبة إطلاق المدافع كما قيل، والكولونل ويت الذي كان في قرق كليسا، والبكباشي ليهمان، والملازم الأول جانوف اللذان ألحقا بأركان الحرب في جتالجه ، والملازم فون ريجستر، والميرالاي بوب، والملازم كونزر الطيار وغيرهم.
9
وقبيل إعلان الحرب عقد أركان الجيش العثماني عدة اجتماعات حضرها ضباط ألمانيون، وبسطوا آراءهم في شأن الخطة الحربية التي يحسن بتركيا اتباعها.
وإذا أضفت إلى هذا كله أن المدافع والبنادق التي استخدمها الجيش العثماني كانت ألمانية، وأن المارشال فوندر غولتز كان رئيس أساتذة الجيش العثماني، ظهر لك السبب الذي من أجله قام كثير من الجرائد ولا سيما الجرائد الفرنساوية، يعزو إلى الألمانيين جانبا من تبعة الفشل الفاضح الذي أصاب الجيش العثماني.
على أن الألمانيين يقولون: «إنا وضعنا النظريات وتركنا العمليات لأركان حرب الجيش العثماني ولحكومته، فما ذنبنا مثلا إذا كان ضباط تركيا لم يتبعوا أولا خطة الدفاع كما رسمناها لهم؟ وما ذنب بنادقنا إذا كان الرديف العثماني لا يعرف كيف يستخدمها؟ وأي عيب يلحق بمدافعنا إذا كانت الطرق غير صالحة، فلا يمكن تسيير البطاريات فيها، وإذا كانت ذخيرتها قليلة؟ إن إهمال العثمانيين هو الذي جر عليهم البلاء ونكبهم بأعظم الإرزاء».
نامعلوم صفحہ