وأصدر فابيوس الأوامر بجمع الرجال للانخراط في سلك جيش جديد ينظمه، وأمر ثانيه في الإمرة ولقبه رئيس الخيالة بإتمام ذلك، وبأن يحشد الجنود كلهم في مكان اسمه تيبور على مسافة بضعة أميال إلى الشرق من المدينة. وكانت العادة أن يكون لكل مسيطر مطلق رئيس خيالة، وكان اسم رئيس خيالة فابيوس مينوسيوس، وهو من المتصفين بالحدة والسرعة والعنف والغضب، كما أن فابيوس كان معروفا بالتأني والتؤدة والحذر والاحتساب.
فجند رئيس الخيالة العساكر وجمعهم في المكان المعين وذهب فابيوس ليتولى القيادة، وكان أحد القناصل قد جاء إلى هناك ومعه طائفة من الجند يقودها، فلما اقترب من المكان وعلم فابيوس بقدومه أرسل إليه يأمره بالمجيء بعد أن ينتزع عنه كل سمات سلطته؛ لأن سلطته التي يخوله إياها منصبه في الأوقات العادية قد ألغيت، وأصبحت الآن منحصرة في شخص المسيطر الجديد.
وكانت عادة القنصل الروماني أن يركب في موكب حافل حيثما ذهب وفي الاحتفالات الرسمية، فكان يمشي أمامه اثنا عشر رجلا بالملابس الرسمية والأوسمة وغير ذلك من شارات الأبهة، وذلك للتأثير على الجيش وعموم الشعب بما للقنصل من العظمة والجلال، وعلى هذا فإن تجرد القنصل من كل دلائل القوة والعظمة ومجيئه إلى حضرة المسيطر كبقية الموظفين؛ اعترافا بأنه أرفع منه منزلة، قد جعل الجيش ينظر إلى فابيوس قائده الجديد نظرة الاحترام الكلي الناجم عن الشعور بالعظمة الفائقة، والصولة والجلال التي له.
وأذاع فابيوس عندئذ منشورا وجهه مع رسل خصوصيين إلى كل الأقاليم الكائنة حوالي رومية، ولا سيما إلى تلك الناحية من المقاطعة التي أصبحت في قبضة هنيبال، وأمر الناس في هذا المنشور بأن يتركوا البلاد والمدن والقرى غير المحصنة، وأن يلجئوا إلى القلاع والحصون والمدن المتوفرة فيها أسباب الدفاع، وأمرهم أيضا بتخريب البلاد التي يغادرونها وبتعطيل كل الأملاك، والأقوات التي لا يستطيعون حملها معهم إلى حيث يهربون.
فلما تم لفابيوس من ذلك ما أراد استلم قيادة الجيش الذي حشده، وزحف بمزيد الحذر والتأني طالبا عدوه، وكان هنيبال في نفس الوقت قد عبر إلى الجانب الشرقي من إيطاليا، وتوغل هناك يجتاح البلاد ويدمر ما فيها بطريقه إلى أن أصبح إلى الجنوب من رومية، ولم يشأ مهاجمة المدينة مباشرة بعد وقعة بحيرة تراسمين؛ لعلمه بأن سكان المدينة الكثار العدد إذا أحرجهم بالتهديد، ورأوا أن المدينة ستقع في قبضته يتألبون للدفاع مستميتين، ويضايقون جيشه أشد مضايقة.
ولهذا سار منحرفا إلى الشرق وانحاز إلى ذلك الجانب إلى أن اجتاز أرباض المدينة، وهكذا اضطر فابيوس إلى المسير جنوبا وشرقا لملاقاته، وتقابل الجيشان على الجانب الشرقي من إيطاليا قريبا من بحر أدريا، وكانت الخطة التي اتخذها القائد فابيوس مبنية على عدم النزول مع هنيبال في معركة، بل يماطله ويحاجزه، ويهدده من بعيد إلى أن ينال الوهن من جيشه بالتعب والتأجيل.
وهكذا بقي على مقربة منه، ولكنه على الدوام يجمع جيشه في مكان متفوق من حيث الموقف الذي يجعل الميزة في جانبه عند العراك. ولم يكن هنيبال يستطيع حمله على ترك مثل ذلك الموقف، وجره إلى غيره بالرغم من كل الحركات التي يجريها لإغضابه وإبعاده عن النقطة التي عسكر فيها، وعندما يتحرك هنيبال منتقلا بجيشه إلى مكان آخر يحصل فيه على أقوات للجيش، كما كانت الظروف تضطره أن يفعل كان فابيوس يتحرك زاحفا، ولكن على حذر ولا يقف إلا في الأماكن التي تضمن له السلامة وعدم التعرض للخطر.
وحاول هنيبال استجرار فابيوس إلى العراك بكل وسيلة لديه، فخابت آماله ولم ينل المراد من ذلك، وفي الواقع أن هنيبال كان هو نفسه متعرضا للخطر الكبير في بعض الأحيان، وذلك أن براعة فابيوس جرته إلى نقطة كان فيها محاطا بالجبال من كل جانب، وكانت جنود فابيوس قائمة عليها ولم يكن هنالك سوى مخرج واحد للفرار، حتى إن ذلك المخرج نفسه كان في حوزة جنود فابيوس.
فعمد هنيبال وهو في هذا المأزق إلى استخدام الحيلة والدهاء في تدابيره الحربية، كعادته في مثل هذه الحال توسلا بذلك إلى فتح سبيل للخلاص، فجمع قطيعا من الثيران ووضع على قرونها حزما من الحطب وصب على الحطب الزفت؛ وذلك لكي يصير الحطب قابلا للالتهاب، وفي الليلة التي عول في غضونها على عبور ذلك المضيق أمر جيشه بالتأهب للمسير، ومن ثم استاق الثيران تحت جنح الظلام نحو التلال والآكام المقابلة للمضيق الذي يحرسه جنود الرومانيين، وهناك أشعل الحطب المزفت الذي على قرونها بالنار.
فاشتعل الحطب على قرون الثيران، فاضطربت وارتعدت وهاجت من تأثير حرارة النار، وهامت على وجوهها في هاتيك الجبال وتراكضت بين الأشجار وقد عميت منها الأبصار بشرار النار ودخانها، ثم علقت النيران بأطراف الأشجار، وعندئذ حدث اختلاط عظيم بين الثيران وضجة كبرى من الرومانيين الذين شاهدوا ما جرى، فظن الذين يحرسون المضيق منهم أن الجيش القرطجني قد صعد إلى أعالي الجبل وهو يتسلل نازلا لمهاجمتهم.
نامعلوم صفحہ