ثم ما زال بعده الملوك يزيدون بها ويحسنون بناءها حتى أصبحت في الأزمنة الغابرة من أدهش القلاع، فقد بنيت على هيئة من الإتقان غريبة، ينظر الداخل إلى باب لها مشمخر تلوح عليه العظمة والأبهة، مبني بحجارة عظيمة على خمس جسور مرتفعة فوق الخندق، ثم يدخل إلى منعطفات الأبراج فيرى البلد من النوافذ المفتوحة للحراسة الواسعة من الداخل والضيقة من الخارج، ومن فوقها النوافذ الواسعة التي سدت بشبك من الحديد عظيم، وبعد قطع المدخل بنايات عظيمة من دار الحكومة ومحل الذخائر وبيوت السكن يحيط بها سور عظيم مرتفع. وفي مقابله جامع أبي الفداء جامع للقلعة ذي منارة شامخة، ومنه إلى الجهة القبلية بمسافة واسعة حمام كبيرة جدا. وفي طرفها الشرقي المطل على طريق باب الجسر بئر واسع فيه ماء عذب جدا يأتي من مكان خفي من نهر العاصي يقال إن ماءه لم يزل جاريا في باطنها حتى الآن. ولها طريق تحت الأرض يصل إلى العاصي من جهة الشمال مارا من تحت بستان الدوالك متصلا ببعض البيوت، وكانت مرصونة بالحجر الأملس من أسفل الخندق إلى حيطان السور لئلا يصعد إليها العدو. ولها خندق دائر حولها عميق جدا لا يكاد الواقف على السور أن يرى أسفله كان العاصي مرتفعا عنه، ولهذا الخندق طريق إلى الماء - من المكان المسمى الآن جسر الهوى في مدخل محلة باب الجسر - كانوا إذا أرادوا الحصار يفتحون منه ماء العاصي فيمتلئ من جميع جوانب الخندق فلا يقدر أحد أن يصل إلى القلعة.
وقد وصفها ابن جبير في رحلته حينما قدم حماة في دور سنة 570، فقال: وبإزاء ممر النهر بجوف المدينة قلعة حلبية الوضع، وإن كانت دونها في الحصانة والمنع. سرب لها من النهر ماء ينبع فيها، فهي لا تخاف الصدى، ولا تتهيب مرام العدى. انتهى. فقوله: «حلبية الوضع» يكفي لأن ننظر إلى قلعة حلب فنعرف حقيقة قلعة حماة، غير أن قلعة حلب أمنع من قلعة حماة بالنسبة لأهمية مركزها. وقال ياقوت: وفي طرف المدينة قلعة عظيمة، عجيبة في حصنها وإتقان عمارتها، وحفر خندقها مائة ذراع وأكثر. انتهى.
الرومانيون
في حدود سنة 64 استولى الرومانيون على حماة فيما استولوا عليه من بلاد سورية، وامتدت مدة ملكهم، وعظمت شوكتهم، ودخلت عليهم الحضارة فازدهرت البلاد وكثرت السكان، فقد كان المكان المسمى بلعاس في مدتهم كورة عظيمة ذات قرى كثيرة وأشجار مثمرة من زيتون وغيره، وهم الذين أنشئوا النواعير على العاصي ليستفيدوا من الماء فيجري إلى الأمكنة المرتفعة، ومما عملوه أن حفروا قناة ماء من جهة مصياف إلى حماة مغطاة بالحجارة يجري في داخلها الماء لتحيي به القرى المجاورة له وليشرب منه أهل المدينة، وعملوا قناة أخرى من شرقي سلمية مارة شمال حماة حتى قلعة المضيق لتعمر القرى المجاورة لها أيضا.
وكان لهم عناية كبرى في زرع الزيتون واستثماره فلا تكاد تمر بقرية من قرى حماة إلا وتجد آثار مطاحن الزيت وآثار مخازنه. وقد زادوا في بنيان القلعة، وحسنوا ما شاءوا، وعملوا بعض الجسور على نهر الأورونت «العاصي» وسنذكرها.
والذي يظهر من آثارهم أنهم كانوا أهل جد وعمل، وأن البلاد كانت آهلة بالسكان في أيامهم؛ فإن المتجول في بر حماة لا يكاد يفارق آثار قرية حتى يمر بآثار أخرى بحيث لو كانت عامرة بالسكان لأصبح عدد النفوس أضعاف أضعاف الموجودين الآن.
وكان لحماة أسوار محيطة بها من الحجر الأبيض - بناها أسطتينوس الروماني - ولها أبواب عديدة، وقد ظلت بيد الرومانيين حتى ملكها المسلمون.
عاداتهم:
كانوا إذا مات لهم ميت وضعوه في نعش، ومشوا أمامه حاملين تماثيل الميت وأسلافه، ويضعون في فم الميت شيئا من النقود ليعطيها للشخص الموهوم المسمى شارون - يزعمون أنه موكل بنقل الأموات إلى نهر الموت وأن هذه النقود أجرته - فإذا وصلوا إلى مكان الدفن أخذ الكهنة ماء ورشوا به من كان مع الجنازة. وكانوا يستعملون أيضا حرق الأموات فيطرحون جسم الميت على حطب مرتب على شكل مذبح، ثم يدور الحاضرون حوله بكل هدوء وسكون على أصوات الآلات الموسيقية، وبعد ذلك يأتي أحد أقارب الميت بشعلة من نار فيضرم الحطب، وأناس يلقون الطيب والروائح الطيبة، وعندما يحترق يطفئون النار بالخمر، ثم يجمعون الرماد ويضعونه في إناء ثمين ويلقونه في المدفن. وقد جرت عادتهم أنهم يطرحون مع الجندي سلاحه ومع النساء بعض حليهن.
وقد سلك الرومانيون مسلك من قبلهم من الأمم باتخاذ يوم من الأسبوع يجتمع فيه أهل القرى للبيع والشراء كيوم الخميس عندنا الآن.
نامعلوم صفحہ