من هنا نعلم علما حقا أن الوقوع على نقطة ابتداء نبدأ منها سفرنا في تقصي الأسباب التي تغير من أساليب الفكر أمر بعيد مناله، إن نحن بحثنا وراءه في حياة الأمم الكامنة، لهذا يجب علينا أن نرجع إلى ظواهر الحياة الملموسة لنتخذ منها نقطة ابتداء نتقصى بها شيئا عن المتجه الذي يتمشى فيه الفكر، وأن ندرس الأسباب الظاهرة التي حدت بالجموع البشرية إلى اتباع سبيل دون غيرها، أو الاستنامة لفكرة أو مذهب أو مبدأ دون أن نتصور يوما أن في مستطاعنا معرفة الأسباب الحقيقية المستترة وراء تلك الظواهر.
خصت بعض عصور التاريخ بقيام حركات فاصلة، وحوادث عظيمة امتصت كل القوى العاملة النشيطة، واندمجت فيها كل العناصر العقلية والتخيلية، حتى إنك لتجد أن تلك الحركات قد مضت مستبدة بأمرها إما لتخضع كل القوى المنبعثة في عصر ما للعمل في سبيل إبراز غرض معين، أو تثبيت فكرة بذاتها، وإما أن تلفيها وقد جرفت أمامها كل شيء إلى جو من التنازع والجلاد، يوجه بكل ما فيه من مختلف الصور والقوى إلى تزكية الحادث الرئيسي الذي تلتف من حوله قوة الفكر والعناصر، والأمثال التي يرويها التاريخ كثيرة منها تلك القرون الطويلة التي يقص أخبارها تاريخ اليهودية، والعصور الأولى أينعت فيها الكنيسة النصرانية، والزمان الذي تقشعت فيه عن المدنية سلطة اللاهوت، وزمان الإصلاح البروتستانتي، وعهد الثورة الفرنسوية.
3
في مثل هذه العصور لا يعوزك البحث أن تعنت نفسك باحثا وراء نقطة ابتداء ترتكز عليها، وتتخذها لبحثك أساسا، في حين أنك تمر على قرون أخرى من الزمان مرا سراعا، فلا تجد فيها من حادث يلتئم من حوله الفكر أو أشخاص يجذبون بقوة عقولهم، أو ثورة مشاعرهم، أو قوة انفعالاتهم، أو تأجج عواطفهم، عقول الناس حول فكرة أو مذهب أو مبدأ تتخذ منه نقطة ارتكاز ترتكز عليها، قد تعجز عن أن تجد نقطة ارتكاز ترتكز عليها في عصر برمته من عصور التاريخ.
وقد تعجز عن أن تقع على ذلك في تاريخ أمة، وقد تفوز بأمنيتك في تاريخ أمة أخرى، فهل تقع في تاريخ مصر الحديث، لا في تاريخها القريب منذ نصف قرن، بل منذ قرن ونيف من الزمان، منذ أن غزا نابليون أرض مصر إلى اليوم، على حادث التأم من حوله الفكر التئاما يكفي لأن يغير من أساليب الفكرة العلمية أو الأدبية؟
لم يترك فتح نابليون من أثر بين في تغير أساليب الفكر، فقد وطئت أقدام الجيش الفرنسوي أرض مصر وتركتها، وأهل مصر في فجوة من كهف الزمان، بل في أعمق فجواته، ما تحركت فيهم شاعرية، ولا انفجر فيهم انفعال، ولا اهتزت لهم مشاعر.
لا يعوزنا لإثبات هذه النظرية من دليل، فإن أكبر علماء الأزهر، كانوا إذ ذاك أكبر عون لنابليون على تحقيق مطامعه، ولم يهتز فيهم عرق ولا نبض لهم قلب.
السبب في كل هذا أن الحياة الكامنة أو الفكر الكامن كان إذ ذاك مفكك الأوصال مشتت العناصر، ضعيف الأثر، فلم يلتئم حول فكرة معينة أو مبدأ بذاته فينوء بقوة التئامه على تلك العقبة التي تصده عن الانصراف في السبيل التي تخطها له الطبيعة.
كذلك لا نستطيع أن نتخذ من عصر محمد علي الكبير نقطة ارتكاز قد يقال فيها أنها السبب في تغير أسلوب الفكر في مصر، سيقت الجماعات المصرية سوقا نحو غايات لم تعرف يوما أنها مسوقة في سبيلها، ولم تشعر بما ينتظرها وراء تلك الغايات من المقاصد التي كانت تجول في رءوس زعمائها، تجد هذا جليا واضحا، لا في غزوات الجيش وحده، بل في ميدان العلم والمعرفة، فإن ذلك العهد على كثرة ما أخرج من نوابغ المتعلمين الذين أوفدهم المصلح الكبير إلى أوروبا، لم يخرج واحد استطاع أن يجمع شيئا مما بددته مظالم الحكومات السابقة من قوة الفكر الكامن في المجتمع المصري حول غاية ما.
فإذا تركنا الحوادث التي انتابت مصر في أواخر القرن التاسع عشر، ورجعنا إلى الأشخاص لم نقع في طول ذلك العهد على مصري واحد استطاع أن يحرك من كوامن الفكر، ويجمع شتاتها حول مذهب أو مبدأ ما، ولكنا نقع على رجل واحد خرج من جوف آسيا ليلعب على مسرح مصر دورا نستطيع إذا ما تبينا طبيعته أن نقع فيه على نقطة ارتكاز نرتكز عليها، على أننا لا نمضي في ذلك البحث قانعين بأن ما أحدث ذلك الزعيم من أثر هو نقطة ارتكازنا، بل طبيعة نزعته في تمثيل القديم، الذي لا يزال قائما بيننا بكل ما أوتي من قوة التقليد وحكم العادة، هي التي نستطيع أن نتخذ منها نقطة ابتداء ننظر من ناحيتها في تغير أساليب الفكر العلمي في مصر، إن جاز لنا أن نقول بأن في مصر فكرا علميا، وأن له أسلوبا تغير أو تبدل.
نامعلوم صفحہ