وفضلا عن المدرستين المسيحية والزرادشتية، فقد وجدت مدرسة وثنية في «حران»، ولا يعلم كيف نشأت، وكيف تطورت! ولا من وضعها، وأقام أسسها! وكانت حران مركزا للتأثير الإغريقي منذ عصر الإسكندر المقدوني الأكبر، وظلت موئلا لتعاليم الديانة اليونانية القديمة، بعد أن انقلب العالم اليوناني الوثني إلى عالم نصراني، والظاهر أن «حران» قد ورثت كثيرا من تعاليم الديانة البابلية القديمة التي كانت قد انتعشت في القرون الأولى من انتشار المسيحية، إلا أن صور تلك الديانة القديمة قد ذهبت بها تطورات الديانة اليونانية الوثنية كما فهمتها «الأفلاطونية الجديدة»، وكما وضعها زعماء تلك الفلسفة في مدينة الإسكندرية، ولا مشاحة في أن حالات الفكر في «حران» تمثل آخر أدوار الوثنية اليونانية والأفلاطونية الجديدة، كما وضعهما «فرفوريوس الصوري» حيث ظلتا عائشتين ممدتين بكل أسباب الحياة، عيشة بعيدة عن معترك العالم الخارج عن حيزهما.
وعلى الرغم من المدارس التي علمت على النسق اليوناني، وأذاعت مواد الثقافة اليونانية، فقد اقترنت التعاليم بكثير من المؤثرات الأخر التي لا يمكن لمؤرخ في تاريخ الفكر أن يغفل أمرها، فإن الجنود الفارسية عندما رجعت من غزو سورية نقلت معها كثيرا من آثار الفكر اليوناني، وطائفة من مظاهر الرفاهية اليونانية.
وكذلك طبعت نفوس أبناء فارس بعد تلك الغزوة بطابع من الإعجاب بالفن اليوناني وهندسة البناء اليونانية، وكان المهندسون والبناءون اليونان الذين أسروا في الحرب أثمن ما رجع به الجيش الغازي من المغانم، حتى إن بلاد فارس بدأت بعد تلك الغزوة تدخل نسق البناء اليوناني فيما تشيد من المباني.
إذن فتاريخ القرون التي تقدمت انتشار الإسلام يدل على ذيوع قسط عظيم من التأثير اليوناني في كثير من فروع الفن والعلم والفلسفة والهندسة والبناء، وفي زخارف الحياة ذاتها، ومن قبل ذلك منذ عصر الإسكندر المقدوني، كان غربي آسيا لا يتنفس إلا في جو مفعم بآثار الفكر الإغريقي.
2
مر بنا من قبل ذكر «بارسوما» الذي قاد الهجرة النسطورية إلى بلاد فارس، وافتتح مدرسة «نصيبين»، كان لذلك الرجل معلم يقال له: «إيباس»، هو القوة المحركة والعقل المفكر في مدرسة «الرها» في أواخر أيامها، ويظهر من المقارنة التاريخية أنه أول من ترجم «إيساغوجي» مختصر «فرفوريوس» في المنطق إلى السريانية.
ويعتبر هذا الكتاب مدخلا لمنطق أرسطوطاليس كما قدمنا، ويدل ذلك على أن المنطق كان يعتبر العلم الرئيسي الذي عني بتدريسه النساطرة، والظن الغالب أنه لم يكن ليقل اعتباره في نظر اليعاقبة عند ذلك.
وفي ذلك الوقت ظهر «بروبوس»
فعلق على كتاب «الإيساغوجي»، كما علق على بعض كتب أرسطوطاليس، ومنها «إرمانوطيقا»
Hermeneutica
نامعلوم صفحہ