بعد موت سيتوس الذي كان ملكا وكاهنا لفلكانوس معا، تمتع المصريون بحريتهم، ولكن إذ كانوا لا يقدرون أن يلبثوا برهة بلا ملك اختاروا اثني عشر ملكا، وقسموا مصر إلى اثني عشر قسما، جعلوا كل ملك لقسم منها، وصار الاتحاد بين هؤلاء الملوك بالزواج، وتعاهدوا ألا يضروا بعضهم بعضا، وألا يطمع الواحد بملك الآخر، وأن يبقوا دائما متحدين بالمحبة الصادقة. وكانت الغاية من هذه المعاهدة أن يتقوا ويثبتوا بإزاء كل خطر يعرض؛ لأنه منذ أول ملكهم بلغهم وحي أن من يقدم منهم سكيبا في هيكل فلكانوس بكأس من نحاس يملك على كل مصر، ولذلك كانوا يجتمعون في كل الهياكل.
وأرادوا أيضا أن يبنوا أثرا على نفقتهم جميعا، فلما تم عزمهم بنوا بربى فوق بحيرة موريس بقليل وقرب مدينة التماسيح، وقد رأيت هذا البناء فوجدته يفوق وصف الواصفين، فكل أعمال الأغارقة وكل أبنيتهم لا تشبهه لا من جهة الشغل ولا من جهة النفقة، بل جميعها دونه بكثير، وهياكل أفسس وساموس تستحق المدح. وأما الأهرام فهي فوق كل ما يقال عنها، كل واحد منها خصوصا يمكن أن يقابل بأعظم أبنية الأغارقة. على أن البربى يفوق الأهرام نفسها - البربى هي المسماة لابيرانتا - فهو مؤلف من اثنتي عشرة دارا تحدق بها أسوار أبوابها متقابلة، ستة منها إلى الشمال وستة إلى الجنوب، وكلها متلاصقة، وحول الجميع سور واحد، ومنازلها مزدوجة، منها ألف وخمسمئة غرفة تحت الأرض وألف وخمسمئة فوق الأرض، وكلها ثلاثة آلاف. وقد دخلت المنازل العليا وجلت فيها، ولذلك أتكلم عنها بتحقيق لأني شاهدتها بعيني، وأما التي تحت الأرض فلا أعرف عنها إلا ما قيل لي؛ لأن المصريين المتولين أمرها لم يسمحوا لي أن أراها؛ لأنها على قولهم متخذة مدافن للتماسيح المقدسة والملوك الذين بنوا هذا البناء كله، فلا أتكلم إذن عن المنازل السفلى إلا نقلا عن كلام الناس، وأما العليا فقد رأيتها وأحسبها كأعظم ما عمل البشر في سالف الأزمان.
فلا يزداد الإنسان إلا تعجبا من اختلاف المسالك المتعرجة المؤدية من الدور إلى المنازل، والمنافذ المؤدية منها إلى دور آخر، وكل مجموع من تلك المنازل مؤلف من غرف كثيرة، تنتهي إلى معابر يوصل منها إلى منازل أخرى، تجتاز غرفها للوصول إلى دور آخر، وسقف كل مجموع المنازل من حجر وكذلك الجدران، وهذه كلها منقوشة بصور مسنمة.
وحول كل دار صف من الأساطين حجرها أبيض، متقنة الإحكام، وفي الزاوية التي ينتهي بها البربى يوجد هرم علوه خمسون أورجية، قد حفرت عليه صور كبيرة لبعض الحيوانات ، ويوصل إليه بمدخل تحت الأرض.
ومهما كان هذا البربى عجيبا، فإن بحيرة موريس القريبة إليه أعجب منه؛ محيطها ثلاثة آلاف وستمئة استادة عبارة عن ستين سخينة، أي أن استدارتها بمقدار مسافة ساحل مصر كلها من جهة البحر، وهذه البحيرة الممتدة طولا من الشمال إلى الجنوب عمقها خمسون أورجية في عمق موضع منها، وقد حفرت بأيدي الناس والدليل منها نفسها فإنه يشاهد في وسطها تقريبا هرمان علو كل منهما فوق الماء خمسون أورجية وخمسون تحت الماء، وعلى كل منهما تمثال ضخم جالس على عرش، فطول كل من هذين الهرمين مئة أورجية، فمئة أورجية تكون استادة أي ستة بليثرات؛ لأن الأورجية ستة أقدام أو أربع أذرع والقدم أربع قبضات والذراع ست قبضات.
ومياه بحيرة موريس ليست من نبع؛ لأن الأرض التي فيها جافة جدا وقاحلة، بل يؤتى بها من النيل بترعة بينهما، فتجري من النيل إلى البحيرة مدة ستة أشهر، ومن البحيرة إلى النهر ستة الأشهر الأخرى، وفي مدة رجوع المياه منها إلى النهر يكون من الصيد في البحيرة ضريبة للخزينة الملوكية وزنة فضة كل يوم، لكن في الستة أشهر التي تدخلها المياه من النيل لا تكون الضريبة إلا عشرين منا - الوزنة عبارة عن 5400 درهم والمنا 90 درهما - فيكون مدخول الصيد السنوي للخزينة 296000 درهم، وكلها تنفق على حلي الملكة وعطرها.
وللبحيرة عطفة من جهة الغرب، وتتجه إلى وسط الأرض على موازاة طول الجبل فوق منف، وتتفرغ مياهها لمنفعة أهالي البلاد في خليج «سيرته» من ليبيا بواسطة قناة من تحت الأرض. ولكوني لم أر في موضع ما استخرج من التراب عند حفر البحيرة، وكنت مشتاقا لمعرفة مكان وجوده سألت أهل البلاد الذين هم أقرب إلى البحيرة من غيرهم، فلم يصعب علي تصديقهم أكثر مما صعب علي تصديق الخبر عما فعل أهل نينوى مدينة الآشوريين من نحو هذا، وذلك أن لصوصا أرادوا سرقة كنوز سردنابال ملك نينوى، وكانت وفيرة جدا، ومكنوزة في مكان تحت الأرض، فابتدءوا يحفرون الأرض من موضع سكناهم، وقد اتخذوا التدابير وعرفوا المسافة بتحقيق تام، فاستمروا يحفرون إلى أن وصلوا إلى قصر الملك، وعند دخول الليل كانوا يأخذون التراب ويلقونه في دجلة وهو يجري على طول مدينة نينوى، وبقوا هكذا في عملهم إلى أن بلغوا غايتهم. وهكذا على ما سمعت عمل أهل مصر، لكن الفرق أنهم لم يكونوا يحفرون البحيرة ليلا بل في النهار، وكلما حفروا شيئا كانوا ينقلون التراب ويلقونه في النيل فيبدده، وعلى هذه الطريقة كان حفر البحيرة إذا صدق أهل البلاد. ا.ه.
وقال في موضع آخر، ويؤخذ من قوله إن أهل الفيوم كانوا يعبدون التمساح، كما يتضح ذلك من عبارته الآتية:
وبعض المصريين يحسبون التماسيح مقدسة، وبعضهم يطاردونها ويقتلونها، فالذين يسكنون نواحي طيوة وبحيرة موريس يحترمونها احتراما شديدا، وكلهم يأخذون تمساحا صغيرا يربونه ويعلمونه أن يحتمل مس اليد، ويعلقون في أذنه حلقا من ذهب أو حجارة مقلدة، ويجعلون في قائمتيه الأماميتين أساور، ويطعمونه من لحم الذبائح وأطعمة أخرى مفروضة، ويعتنون به ما دام حيا، وإذا مات يحنطونه ويضعونه في تابوت مقدس. انتهى كلام هيرودتس.
أقوال المقريزي في خططه عن الفيوم
نامعلوم صفحہ