مقدمة:
خصائص العصر الحديث
١ - تطور عميق:
أ- إذا كان المؤرخون يعتبرون فتح الترك للقسطنطينية سنة ١٤٥٣، وما تبعه من انهيار الإمبراطورية البيزنطية وهجرة علمائها إلى إيطاليا، نقطة التحول من العصر الوسيط إلى العصر الحديث، فما ذلك إلا لظهور هذه الأحداث وآثارها في جملة الأحداث التي كونت نسيج التطور الجديد. إن التدرج قانون التحول الاجتماعي؛ تعمل على هذا التحول أسباب لطيفة عملًا متصلًا، حتى يجيء يوم وإذا به قد تم وبرز للعيان. وقد بينا في "تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط" أن الانتقاض على القديم بدأ بابتداء القرن الرابع عشر، فما كاد ينصرم ذلك القرن حتى كانت الفلسفة الاسمية قد نضجت في إنجلترا وفرنسا، وقضت في بعض الأذهان على جهود المدرسين في سبيل إقامة فلسفة تتفق مع الدين، وحطمت العلم الطبيعي الأرسطوطالي في جامعة باريس، وظاهرت الأمراء في تمردهم على السلطة البابوية. وكانت بين إيطاليا وبيزنطة علاقات ثقافية ترجع إلى القرن الثالث عشر، إذ كانت إيطاليا منقسمة إلى جمهوريات وكان أمراؤها يستقدمون الأدباء والعلماء من البيزنطيين. وتوثقت هذه العلاقات في القرن التالي من جراء نشاط التجارة بين البلدين ومحاولات التقريب بين الكنيسة اللاتينية والكنيسة اليونانية. فنشط تعلم اليونانية والنقل منها إلى اللاتينية، وتكاثر في إيطاليا عدد الأدباء والعلماء البيزنطيين بعد ضياع ملكهم، حتى صار الشغف بالأدب القديم عامًّا في القرن الخامس عشر، وكان الإيطاليون كأنهم يعودون إلى أدبهم السالف، الأدب اللاتيني الملقح باليونانية. ومن إيطاليا انتشر الأدبان إلى فرنسا وإنجلترا وألمانيا وهولندا، وأسرع انتشارهما بفضل اختراع الطباعة في منتصف القرن. فكانت "نهضة" حقيقتها أنها عودة إلى الثقافة القديمة، وثورة على ما استحدث العصر
1 / 5
الوسيط من أدب وفلسفة وفن وعلم ودين، وأسباب الحياة السياسية والاقتصادية.
ب- هذه الثقافة القديمة تنضح بالوثنية من كل جانب، فانتشرت الوثنية في الأفكار والأخلاق. رأى فيها فريق كبير من الغربيين صورة إنسان الفطرة والطبيعة، واعتبروا دراسة القدماء كفيلة وحدها بتكوين الإنسان بمعنى الكلمة، فسميت هذه النزعة بالإنسانية أي: المذهب الإنساني، وسميت الآداب القديمة بالإنسانيات. وجاءت كشوف كولومبوس وفاسكو دي جاما وماجلان ودريك في أواخر القرن، بمعلومات كثيرة عن شعوب كانت بمعزل عن المسيحية، وكان لها أديان وأخلاق، فظهرت فكرة الدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية. وهكذا تكونت في الغرب المسيحي نظرية جديدة في الإنسان تقنع بما يسمى بالطبيعة وتستغني عما فوق الطبيعة، كأنها تقول لله: نشكرك اللهم على نعمتك، ولكنا بغير حاجة إليها! ولسنا نرى إلا أن هذه النظرية تعتمد على إحدى وجهتين للثقافة القديمة، وتغفل عن الوجهة الأخرى؛ فقد كانت المدنية اليونانية والرومانية تقوم على علاقة وثيقة بين المواطنين والآلهة، وكانت العقول مشغولة بالقدر والغيب، وبقيت "الأسرار" ناشطة طول عهد الفلسفة، وتأثر بها أعاظم الفلاسفة، حتى تحسر أفلاطون على أن وحيًا إلهيًّا لم ينزل بخلود النفس فيقطع التردد والقلق، وحتى رأى رجال الأفلاطونية الجديدة أن كمال الفلسفة في كمال الدين والتصوف، ويقال مثل هذا في جميع الشعوب القديمة: كان الدين أظهر مظاهر حياتهم، يتناولها في جميع نواحيها وينظمها أدق تنظيم. وإذن فقد أخطأ الإنسانيون إدراك روح اليونان والرومان وغيرهم من الأمم، وخدعهم عن هذه الروح بعض الشعراء الماجنين والفلاسفة الماديين، ولكن هكذا كان، فنجمت نتائج خطيرة.
ج- كان من آثار المذهب الإنساني العمل على سلخ الفلسفة عن الدين، أو بعبارة أدق: العمل على إقامة الفلسفة خصيمة للدين، والحملة على الفلسفة المدرسية بالتهكم على لغتها وبحوثها وطريقة استدلالها؛ بل الحملة على العصر الوسيط بجميع مظاهره، ورميه بالجهل والغباوة والبربرية. وكان ما هو أخطر من هذا: كان أن تسرب المذهب الإنساني إلى المسيحية نفسها، وأخذ يعمل على تقويضها من الداخل. فما كانت البروتستانتية في البدء إلا "احتجاجًا على الغفرانات" ودعوى إصلاح في الإدارة الكنسية والعبادة، ثم زعمت أن الدين يقوم على "الفحص
1 / 6
الحر" أي: الفهم الخاص للكتاب المقدس، وعلى التجربة الشخصية، بغير حاجة إلى سلطة تحدد معاني الكتاب، ثم تناولت العقائد بالفحص الحر فذهبت فيها كل مذهب، وبددت علم اللاهوت غير محتفظة إلا بعاطفة دينية عاطلة من كل موضوع. قام لوثير " ١٤٨٣ - ١٥٤٦ " وزفنجل " ١٤٨٤ - ١٥٣١ " وكلفان " ١٥٠٩ - ١٥٦٤ " يزعزعون العقيدة السلفية، وينشئون الكنائس المستقلة وقام هنري الثامن " ١٥٠٩ - ١٥٤٧ " يقهر الإنجليز على إنكار الكثلكة، وقام غيره من الملوك والأمراء يناصرون المبتدعة قضاء لمآربهم الخاصة، فكان القرن السادس عشر من أشد القرون اضطرابًا وفوضًى، انحلت فيه الروابط الدينية والعائلية والاجتماعية، وعنفت الأهواء القومية، فنشبت الحروب من أجل الدين والسياسة جميعًا، واستُبيح فيها كل محرم بحجة سلامة الأمير أو الدولة.
د- وكان الأمراء الإيطاليون يطلبون أسباب القوة والترف، فشجعوا الفنون والصناعات، فاندفع الأهلون إلى الابتكار والإتقان، وتنافست المدن في هذا المضمار، حتى غالت في الاستئثار بالمخترعات والآلات الجديدة. وكان من استخدام القوى الطبيعية أن زاد في معرفة أفاعيلها، وحفز الهمم إلى البحث عن قوانينها، فخرج العلم الآلي من ازدهار الصناعات، ونبغ علماء وفنانون من الطراز الأول، ومن المعلوم أن العمل الساذج يسبق النظر، أو أن الفن يسبق العلم، ثم يخرج من النظر عمل جديد، ومن العلم فن جديد أغنى وأكثر إحكامًا. وكان العلم بأرشميدس في القرن السادس عشر، ذلك العالم الذي طبق النظر على العمل خير معوان على إقامة ميكانيكا جديدة أرضية وسماوية. فازداد سلطان الإنسان على الأرض، واتسعت السماء أمام ناظريه بفضل اختراع التلسكوب، فأحس من الكبرياء والطموح ما لم يحسه من قبل، والتقى هذا الإحساس في نفسه بما أوحى به المذهب الإنساني في الأدب والدين، وبما نفخ فيه النضال السياسي من إحساس قوي بالاستقلال، فشعر كأنه رب نفسه ليس فوقه رب.
هـ- تلك خصائص عصر النهضة، وهي هي خصائص العصر الحديث إلى أيامنا، نستطيع أن نردها إلى اثنتين: الفردية العنيفة في الأدب والدين والسياسة، والعناية البالغة بالعلم الآلي وتطبيقاته العلمية الرامية إلى توسيع سلطان الإنسان على الطبيعة والزيادة في رخائه. وسيكون لكل هذا صدى قوي في الفلسفة: ستستقل
1 / 7
الفلسفة عن الدين، فتكون هناك فلسفة إلحادية، وتكون فلسفة تتحدث عن الروحانية والمسيحية ولا تعني سوى مجرد عاطفة دينية، وتكون فلسفة تشيد بالعلم الآلي وتحصر مجالها على قدر مجاله؛ أو تجتمع هذه الوجهات المختلفة في بعض المذاهب مع تفاوت بينها؛ وتظل الأجيال إلى الآن حائرة مترددة، تعتنق المذاهب وتخلعها الواحد بعد الآخر، وتستبدل نظامًا من الحياة بنظام.
٢ - أدوار الفلسفة الحديثة:
هذه المذاهب من الكثرة والتشعُّب بحيث يتعذر التمهيد لها والإشارة إليها بشيء من الدقة في مقدمة عامة. فنقتصر هنا على تعريف مجمل بأبواب الكتاب وهي ستة، يدور الباب الأول على عصر النهضة، أي: القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهو عصر جديد، ولكن فيه شيئًا غير قليل من القديم: فيه أتباع لأفلاطون يستمدون منه أسباب دين طبيعي؛ وفيه رشديون يذيعون الإلحاد تحت ستار دراسة أرسطو وابن رشد؛ وفيه علماء يحاولون استكناه أسرار الطبيعة بالسحر والتنجيم؛ وآخرون يضعون أسس العلم الحديث في الرياضيات والفلك والطبيعيات؛ وفيه نقاد يتشككون في أصول الأخلاق ومبادئ المعرفة؛ وفيه فلاسفة تضطرب في عقولهم جميع هاته الميول، فيخرجون مذاهب غامضة مختلطة. ولكن ما إن يجيء القرن السابع عشر، وهو موضوع الباب الثاني، حتى تهدأ الثورة، ويبدو ميل إلى الإنشاء بعد الهدم، فتزدهر نهضة دينية، وبخاصة في فرنسا، وتظهر أمهات المذاهب الحديثة، في مقدمتها مذهب ديكارت الذي يزعم إقامة فلسفة مسيحية ويستمد عناصرها من القديس أوغسطين والقديس أنسلم ودونس سكوت، ولكنه يبث فيها روحًا مغايرة للدين؛ ويتفلسف على أثره مالبرانش وبسكال وسبينوزا وليبنتز، فيبين كل منهم على وجهة ستتكرر في الأجيال التالية، بينما يضع هوبس وفرنسيس بيكون ولوك فلسفة واقعية تنكر الميتافيزيقا وتستمسك بالتجربة. فيكون لهذه الفلسفة الإنجليزية تأثير كبير على القرن الثامن عشر، موضوع الباب الثالث، يلح فيها الإنجليز، وأشهرهم هيوم؛ ويصطنعها الفرنسيون، فيرد كوندياك المعرفة بأسرها إلى الإحساس، وينقد فولتير وروسو وأضراب لهما كثيرون أصول الدين والاجتماع ويبددون
1 / 8
فلسفة ديكارت؛ ويجمع كانت بين المذهبين الحسي والعقلي في محاولة قوية لتفسير العلم والوجود تجعل منه فيلسوف ألمانيا الأكبر، وتسيطر على العقول إلى أيامنا. وبينا يبدو القرن الثامن عشر عصر تحليل دقيق ونقد عنيف، إذا بالنصف الأول من القرن التاسع عشر، موضوع الباب الرابع، يعمل على التركيب والبناء في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا على السواء: تظهر في ألمانيا فلسفات ضخمة صاخبة تحمل أسماء فختي وشلنج وهجل وشوبنهور، ويتعمق الفرنسيون في دراسة الحياة النفسية وشرائطها بحيث يترتب على هذه الدراسة حلول في سائر النواحي، كما فعل مين دي بيران، أو يستوعب أوجست كونت جميع النواحي في مذهب واحد يصدر عن الواقعية؛ ويحاول نفر من الإنجليز، أبرزهم هاملتون تصحيح المذهب الحسي بالفلسفة الألمانية. ثم ينقلب الحال في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، موضوع الباب الخامس، فينشب صراع بين المادية وقد وجدت أسلحة جديدة في نظرية تطور الأحياء، وأنصارًا عديدين في ألمانيا وإنجلترا، أشهرهم دروين وسبنسر، وبين الروحية يؤيدها فلاسفة فرنسيون. ويستمر هذا الصراع في النصف الأول من القرن العشرين، موضوع الباب السادس والأخير، ويمكن القول: إنه لن ينتهي، ولكن الروحية العصرية عرجاء ناقصة، فإن الفلسفة الحديثة في جملتها لا تؤمن بالعقل ومعانيه ومبادئه، ولا تؤمن بجواهر ثابتة حتى تقول بنفس خالدة، وإله شخصي مفارق للطبيعة. فالروحانية مفتقرة في الواقع إلى فلسفة وجودية موضوعية كفلسفة أرسطو، ولا ندري ما إذا كانت العقول العصرية تأخذ أنفسها بمثل هذه الفلسفة، أو تمضي في محاولاتها العقيمة.
1 / 9
الباب الأول: بين القديم والجديد القرن الخامس عشر والسادس عشر
الفصل الأول: أفلاطونيون
...
الباب الأول: بين القديم والجديد القرنان الخامس عشر والسادس عشر
الفصل الأول: أفلاطونيون
٣ - نقولا دي كوسا " ١٤٠١ - ١٤٦٤ ":
أ- أديب كما يهواه الإنسانيون، ورياضي وفيلسوف وصوفي. ولد بمدينة كوسا من أعمال ألمانيا، ونشأ عند "إخوان العيشة المشتركة" وكانوا متأثرين للغاية بالتصوف الألماني في العصر الوسيط، فانطبع هو بهذا الطابع. وفي الخامسة عشرة أخذ يدرس الفلسفة بجامعة هيدلبرج، وكان أساتذتها أوكاميين، فحفظ شيئًا من تعليمهم. وفي السنة التالية انتقل إلى جامعة بادوفا بإيطاليا، وكانت معقل الرشديين، فدرس فيها القانون والرياضيات والفلسفة، دون أن يأخذ بشيء من الرشدية. ثم اشتغل بالمحاماة، ولكنه عدل عنها إلى الكهنوت، فترقى في مراتبه، فصار أسقفا فكردينالا، وكان موضع إعجاب وإجلال في مختلف المناصب التي تولاها؛ لما كان متحليًا به من التقوى والعلم وحسن تصريف الأمور، حتى مع البروتستانت، إذ أظهر نحوهم الشيء الكثير من التؤدة والتسامح.
ب- كان "موسوعة" حية، له رسائل فلكية ورياضية يبدو فيها ممهدًا لكوبرنك ولإصلاح التقويم. وله كتاب فلسفي اسمه "الجهل الحكيم" " ١٤٤٠ " وهذا لفظ وارد عن القديس بونا فنتورا، وسنوضح المقصود منه فيما بعد. والكتاب مقسم إلى ثلاث مقالات: في الله، في العالم والإنسان، في العودة إلى الله بالفداء؛ ومذهبه فيه يرجع إلى ديونيسيوس وأبروقلوس وجون سكوت أريجنا ومن لفّ لفهم من فلاسفة العصر الوسيط. ذلك أن الأفلاطونية بانت له الوسيلة الوحيدة لتخليص الميتافيزيقا من الدمار الذي انتهت إليه على أيدي الاسميين، ولم تكن الأرسطوطالية في عهده توفر له هذا الغرض، ولكنها كانت رشدية ملحدة، فعارضها وبعث
1 / 10
الصرخة التي لن تلبث أن تدوي في أرجاء أوروبا: "لتسقط شيعة الأرسطوطاليين! ".
ج- يصل الكردينال دي كوسا إلى الله والتصوف بتحليل المعرفة على طريقة الأفلاطونيين، المعرفة بالإجمال ورد الكثرة إلى الوحدة، أو هي تركيب وتوحيد. ففي المعرفة الحسية، التوحيد في غاية النقص، إذ إن الحواس تقبل الإحساس متفرقة، وتدرك الأجسام إدراكًا غامضًا. ثم يزيد التوحيد بتكوين معاني الأنواع والأجناس، أي: بردّ الجزئيات إلى ماهيات، ونظمها في قضايا وفقًا لمبدأ عدم التناقض، وهذا عمل العقل الاستدلالي، يعطينا علمًا محدودًا نسبيًّا مؤلفًا من احتمالات؛ لأنه ليس في العالم شيئان متشابهان تمام التشابه، وإنما هناك جزئيات منفصلة مستقلة لا يقاس بعضها على بعض. وهذه هي الاسمية التي أخذها عن أساتذة هيدلبرج، ثم يبلغ التوحيد أقصاه في الحدس، فتبطل عنده قيمة مبدأ عدم التناقض، وتدرك النفس توافق الأضداد التي يعرضها العقل الاستدلالي منفصلة متقابلة. وليس هذا الحدس معرفة، إذ إن المعرفة لا تحصل بغير كثرة واختلاف، فكمال التفكير في وقوف التفكير. فالجهل الحكيم معرفة الفكر لحدوده، واعتقاده بالوحدة المطلقة وراء هذه الحدود، وبأن ليس مبدأ عدم التناقض المبدأ الأعلى، وليس الجدل العلم الأعلى الذي يخضع له العقل والإيمان، على ما يريد الاسميون. إن النقائض والأضداد ملازمة لعلمنا بالمتناهي، ولكنها تمحى في اللانهاية؛ فالخط المنحني إذا صححنا انحناءه إلى ما لانهاية، جعلناه كالخط المستقيم، وإذا فرجنا الزاوية القائمة في المثلث إلى ما لانهاية، اختلط وترها بالضلعين الآخرين؛ ومتى اعتبرنا الحركة كأنها سكونات متتالية، اتفقت مع السكون؛ وهكذا في جميع الأضداد.
د- فالله الموجود الأعظم اللامتناهي الحاوي كل وجود، حتى النقائض: "هو الأشياء جميعًا في حال الوحدة أو الانطواء، والعالم الأشياء جميعًا في حال الكثرة أو الانتشار. الله الموجود المطلق الذي بلغت فيه كل قوة إلى الفعل، والعالم الموجود المتشخص المركب المنتقل من القوة إلى الفعل". وجود العالم لا وجود بالقياس إلى الوجود الإلهي؛ لذا يجب أن ننفي عن الله كل تعيين، فلا يبقى لنا شيء نسميه؛ لأن كل اسم فهو ناشئ عن تفريق وتمييز، وهذا هو اللاهوت السالب كما صادفناه عند ديونيسيوس وسكوت أريجنا؛ وإذا أطلقنا على الله أسماء
1 / 11
فإنما ندل فقط على أنه نموذج الموجودات ومصدرها، وهذا هو اللاهوت الموجب؛ أما العالم فيرجع كله إلى الله، إذ إن كل موجود فهو يرمي إلى استكمال ماهيته، ويرجع الإنسان إلى الله بالمعرفة، فإن طبيعته العقلية تسمح له باتحاد بالله أوثق، وكل هذا نعرفه عن الفلاسفة الذين ذكرناهم. وقد اتهم الكردينال دي كوسا بوحدة الوجود، فأنكر التهمة، وهو يفسر معنى توافق الأضداد والانطواء الإلهي بما لا يدع مجالًا للشك في مقاصده، فيقول: إن الله أوجد العالم "عن قصد" لا ضرورة، وهذا ينفي كل اشتراك في الوجود بين الخالق والمخلوق.
٤ - مرسيليو فتشينو " ١٤٣٣ - ١٤٩٩ ":
أ- في هذا الوقت الذي نؤرخه، لم يكن جميع الأفلاطونيين مؤمنين بالوحي المسيحي مثل الكردينال دي كوسا، بل كانوا في معظمهم أصحاب دين طبيعي قائم على الله والنفس والخلود والحرية، يستمدون الأدلة المؤيدة له من كتب أفلاطون، ويقنعون بهذه الأركان الأربعة لكي يصفوا الفلسفة بأنها مسيحية، معارضين رشديي بادوفا الذين كانوا يعتقدون بالمنافاة بين الطرفين. وأول من افتتح النزاع بين الأفلاطونيين والأرسطوطاليين، العالم اليوناني بليثون plethon، فقد أسس بفلورنسا أكاديمية أفلاطونية كسبت عددًا كبيرًا من الإيطاليين إلى جانب أفلاطون، ونشر سنة ١٤٤٠ رسالة ضد أرسطو، وخلفه على المدرسة مواطنه الكردينال بساريون.
ب- وأشهر أتباعهما مرسيليو فتشينو، نقل إلى اللاتينية تساعيات أفلوطين " ١٤٩٢ " وشرح أفلاطون في كتاب أسماه "الإلهيات الأفلاطونية في خلود النفس" وقال في مقدمته: إن الحاجة ماسة إلى دين فلسفي يستمع إليه الفلاسفة بقبول، وقد يقتنعون به. على أن أهمية فتشينو قائمة في تعريف الغربيين بكتب أفلاطون وأفلوطين، وقد طبعت كتبه مرارًا بباريس خلال القرن السادس عشر، وكانت مصدر العلم بالفيلسوفين.
٥ - جان بيك دي لاميراندول " ١٤٦٣ - ١٤٩٤ ":
أ- وتلاقت في تلك البيئة المضطربة، الأفلاطونية والفيثاغورية والكابال اليهودية والمذاهب السرية ١، فنشأت مذاهب غريبة تشترك في الاعتقاد
_________
١ لفظ الكابال يعني التقليد "الموروث أو المقبول" من فعل: قبل يقبل، والكابال جملة شروح رجال الدين من اليهود على التوراة، وهي شروح من الغرابة والبعد عن الأصل بمكان.
1 / 12
بالروحانيات وفي معالجة العلم الطبيعي، فتتّخذ من الناحية الأولى وجه الدين، ولكنه دين غامض مريب، ومن الناحية الثانية وجه الفلسفة، ولكنها فلسفة مشوبة بالسحر والتنجيم والطلسمات، فقد كان أصحابها يزعمون معرفة الطبيعة بمذهب سري، وإخضاعها بفن سري، تبعًا لما جاء عند أفلوطين من أن العالم جملة قوى مترتبة، وأن من الممكن التأثير فيما تحت فلك القمر بوساطة القوى العليا.
ب- إلى هذه النزعة ينتمي جان بيك دي لاميراندول، كان متضلعًا من اليونانية والعبرية، وكان يعتقد أن في الكابال حكمة لا تقل شأنًا عن حكمة أفلاطون وحكمة التوراة. وهو أحد الأفلاطونيين الذين حاولوا التوفيق بين أفلاطون وأرسطو، فصنف في ذلك كتابًا تركه غير تام. وقد شرح سفر التكوين شرحًا رمزيًّا بعد كثيرين سبقوه، فاستخرج منه بالتأويل الفلسفة الباهرة المعقدة الموجودة في الكابال.
٦ - براسلس " ١٤٩٣ - ١٥٤١ ":
هو تيوفانت هوهنهيم المعروف ببراسلس. عالم وطبيب ألماني، كتب بالألمانية. يرجع إلى النزعة المتقدمة، فيؤمن بنور باطن أعلى من "العقل الحيواني" ويحب الكابال ويمزج بينها وبين المسيحية، فيذهب إلى أن النفس الكلية والأرواح التي تليها صدرت عن المسيح، وأن من يطيع الإرادة الإلهية طاعة مطلقة يتحد بالمسيح وبالعقول المفارقة. ويزعم أنه خير الأطباء، الحاصل على الدواء الكلي أو حجر الفلاسفة. ويعارض العلم الطبيعي الأرسطوطالي في عدة نقط، وبالأخص نظرية العناصر الأربعة، وقسمة العالم إلى منطقة عليا وأخرى سفلى، فيقول: إن الموجودات الطبيعية جميعًا مركبة من عين المواد، خاضعة لعين القوانين. والعلم الطبيعي عنده قائم على أن كل شيء في العالم فهو رمز، وأن كل شيء فهو في كل شيء، وأن العلم تعيين درجات الصلة والألفة بين الأشياء، وأننا بمعرفة هذه الدرجات نعرف كيف تتفاعل الأشياء، وكيف نؤثر فيها. وكتبه كلها عبارة عن تعيين مقابلات من هذا القبيل، وقد كان لها تأثير كبير في الجمعيات الصوفية الألمانية، ولكن العلم الحديث اتخذ طريقًا بعيدًا كل البعد عن هذا الخيال.
1 / 13
الفصل الثاني: رشديون
٧ - بونبوناتزي " ١٤٦٢ - ١٥٢٥ ":
أ- هو أشهر أساتذة بادوفا في ذلك العصر. وكانت جامعتها أرسطوطالية رشدية تتشبث بتأويل ابن رشد لأرسطو، ليس فقط في العقليات، بل أيضًا في الطبيعيات، فتعارض الميكانيكا الجديدة التي بدأت في جامعة باريس في القرن الرابع عشر، بنظرية أرسطو في حركة المقذوفات، وتصر على قسمة العالم إلى الرشديين اللاتين في قولهم: إن القضية الواحدة قد تكون صادقة عند اللاهوتي دون أن تكون كذلك عند الفيلسوف، وإن باستطاعتنا أن نؤمن بالإرادة بما لا نجد له مبررًا في العقل، فنخضع للدين مع علمنا ببطلان عقائده. ونشر كتابًا في "خلود النفس" أنكر فيه الخلود، ثم أعلن خضوعه لتعليم الدين بالخلود كحل نهائي للمسألة، ولكن محكمة التفتيش أمرت بإحراق الكتاب، ونجا هو من الأذى بفضل حماية أحد الكرادلة.
ب- في كتاب "خلود النفس" " ١٥١٦ " يذهب إلى أن الخلود ليس لازمًا من مبادئ أرسطو، فكأنه يرد على القديس توما الإكويني الذي قال بعكس ذلك، بل كأنه يقيم الحجة على الكنيسة بالفيلسوف الذي أعلنته حجتها. وفي معالجته للمسألة ينحرف عن قول ابن رشد وأتباعه: إن العقل المنفعل مفارق كالعقل الفعال، وإن للنفس الإنسانية بما هي مشاركة في المعرفة العقلية خلودًا لاشخصيًّا، ويتابع إسكندر الأفروديسي في أن العقل المنفعل في النفس، وأنه "هيولاني" أي: إنه مجرد استعداد جسماني لقبول تأثير العقل الفعال المفارق، وإن النفس الإنسانية فانية كالجسم. وكان هذا الموقف الثاني يعد أكثر خطرًا من الأول، وكانت هناك مناقشات بين أتباع إسكندر وأتباع ابن رشد، فلا نعجب أن يشجع البابا أحد الرشديين "واسمه نيفو Nifo" على معارضة بونبوناتزي، فيدون كتابًا "في الخلوط" لهذا الغرض " ١٥١٨ " وبعض الشر أهون من
1 / 14
بعض! ثم يرد بونبوناتزي على الحجة التي تستنتج ضرورة الثواب والعقاب، فيقول: إنها قائمة على تصور خاطئ، أو على الأقل ناقص، للفضيلة والرذيلة والثواب والعقاب. إن الفضيلة التي تصنع بغية ثواب مغاير لها، ليست فضيلة، يشهد بذلك أننا جميعًا نعتبر الفعل النزيه أجمل من الفعل النفعي، والثواب الحق هو الفضيلة نفسها وما يلحقها من اغتباط؛ أما الأجر المغاير للفضيلة، فثواب عرضي لا يمتّ إلى الفضيلة بسبب. وكذلك الحال في الرذيلة، فإنها تنطوي على عقابها، حتى ولو لم يلحقها ألم خارجي. إن الغاية الطبيعية للإنسان هي طبيعته الإنسانية، وإن في كرامة الفضيلة وعار الرذيلة لسببًا كافيًا لمحبة الأولى والترفع عن الثانية، فليس يسوغ للإنسان، سواء أكان فانيًا أم خالدًا، أن يحيد عن طريق الخبر. أما أن الشعب يصنع الخير ابتغاء ثواب أخروي، ويجتنب الشر خشية جهنم، فهذا يدل على أن أفكاره الأخلاقية ما تزال في الطفولة، وأنه بحاجة إلى الوعد والوعيد حيث يصدر الفيلسوف عن المبادئ ليس غير. المشرعون هم الذين ابتكروا الاعتقاد بالخلود، لا عناية منهم بالحقيقة، بل حرصًا على الخير العام. وبونبوناتزي على حق فيما يثبت من أن الطبيعة الإنسانية مقياس الخير والشر، وأنه يجب إتيان الفضيلة لذات الفضيلة، واجتناب الرذيلة لذات الرذيلة، ولكنه على باطل فيما يريد أن ينفي، فليست الفضيلة غاية في ذاتها، وإنما غاية الإنسان وسعادته نظرية، والمسيحية تعلم أن مثل هذه السعادة تتحقق بمعاينة الله، وأن عقاب الرذيلة الحرمان من الله، فإذا كان الثواب والعقاب الأخرويان مغايرين للفضيلة والرذيلة بما هما كذلك، فإن الثواب الأخروي ذاتي للإنسان الفاضل الذي يتوجه إلى الفضيلة لكونه إنسانًا ويتخذ منها وسيلة لتغليب الإنسانية على البهيمية، والعقاب الأخروي ذاتي للإنسان الرذيل الذي يتحول عن إنسانيته. وبونبوناتزي بعد لا يستطيع أن يعين أساسًا للواجب ومبدأ ملزمًا به، فيدعه لمحض مشيئة الشخص. وتعد محاولته هذه نموذجًا للأخلاق الطبيعية المستقلة عن الفلسفة والدين.
ج- وله كتاب "في القدر والحرية وانتخاب الله للمخلوقات" " ١٥٢٥ " يذهب فيه إلى أن الحرية الإنسانية ثابتة بالتجربة، وأن العناية الإلهية ترجع إلى الإيمان، ولا يمكن التوفيق بينهما؛ لأن في وضع الواحدة رفعًا للأخرى. ويعرض لمسألة الشر، فيبرره بأنه داخل في نظام العالم، وأنه شرط الخير، كما يفعل
1 / 15
أفلاطون والرواقيون وأفلوطين. وبعد وفاته نُشر له كتاب "في علل الظواهر الطبيعية العجيبة أو كتاب التعازيم" " ١٥٥٦ " يقول فيه: إن المعجزات أحداث استثنائية تصاحب نشوء الأديان، وهي مع ذلك أحداث طبيعية، إلا أن تفسيرها يتطلب تعمقًا في معرفة الطبيعة لا يبلغ إليه الإنسان عادة؛ فهو يتطلب مثلًا معرفة ما للأعشاب والأحجار والمعادن من قوى خفية، وما بين الإنسان وسائر أجزاء العالم، ومنها النجوم بنوع خاص، من علاقات مختلفة، وما للمخيلة من قوة قد تحدث الشفاء بالإيحاء، وأمورًا أخرى من هذا القبيل. وكان أفلوطين قد قال بمثل ذلك "في الرسالة الرابعة من التساعية الرابعة، ف ٣٦ - ٤٢ " فهؤلاء الرشديون أو الأرسطوطاليون يستمدون أسلحتهم من كل موضع.
٨ - جيرولامو كردانو " ١٥٠١ - ١٥٧٦ ":
خريج جامعة بادوفا أيضًا، اشتهر بالطب، وله اسم مذكور في الرياضيات بوضعه قاعدة لحل معادلات الدرجة الثالثة في كتاب نشر سنة ١٥٤٣. وهو صنو براسلس، ذهب إلى مزيج غريب من السحر والتنجيم، ومن الآراء الحرة. نظر في قيام الأديان وانحطاطها، وفي توزعها في مناطق الأرض، فأرجعها إلى تأثير اقتران النجوم، واستخرج طالع المسيح المولود في اقتران المشتري والشمس، وأضاف الشريعة اليهودية إلى تأثير زحل!! وللعالم عنده نفس واحدة آلتها الحرارة، فجميع الموجودات الطبيعية حية ولو لم تظهر الحياة فيها جميعًا. ويروى أنه بعد استكشاف أقمار المشتري أبى أن ينظر في التلسكوب وأصر على إبائه لمخالفة هذا الكشف لمذهب أرسطو!
٩ - تشيزاري كريمونيني " ١٥٥٠ - ١٦٣١ ":
من أساتذة بادوفا وآخر ممثلي مدرستها في الوقت الذي كان العالم من حولها قد تحول أيما تحول. له كتاب "في السماء" يردد فيه الآراء المميزة لمدرسة قدم العالم وضرورته: إنكار الخلق، اتحاد وثيق بين النفس والجسم يقضي على الروحانية، إنكار الخلود، إنكار العناية الإلهية، واعتبار الله علة غائية فحسب.
1 / 16
الفصل الثالث: علماء
١٠ - ليوناردو دافنتشي " ١٤٥٢ - ١٥١٩ ":
ثمرة من خير ثمار عصر النهضة. اشتغل بالتصوير والنحت والموسيقى فكان فنانًا عظيمًا، وتبحر في التشريع والمعمار والميكانيكا فكان عالمًا مبرزًا، واستخلص من أبحاثه أصول المنهج العلمي، ومن مشاهداته للناس عوامل سيرتهم فكان فيلسوفًا مذكورًا. تناول علم الميكانيكا حيث تركه أرشميدس، ونهج فيه نهجه، فوصل إلى نتائج تختلف عما كان وصل إليه الإسميون الباريسيون في القرن السابق. وكان مقتنعًا بأن العلم ابن التجربة، وأن النظريات التي لا تلقى تأييدًا من التجربة نظريات باطلة، فكان يرمي الكيميائيين والمنجمين بأنهم دجالون أو مجانين. وليست التجربة عنده مجرد الإدراك الحسي، بل البحث عن العلاقات الضرورية بين الأشياء، ووضع هذه العلاقات في صيغ رياضية تخلع على نتائج التجربة يقينًا كاملًا، وتسمح باستنتاج الظواهر المستقبلة من الظواهر الراهنة.
١١ - نقولا كوبرنك " ١٤٧٣ - ١٥٤٣ ":
أ- ولد بمدينة ثورن Thorn من أعمال بروسيا، ولكن البولنديين يدعونه، والمرجح أنه من أسرة ألمانية استوطنت بولندا. درس الآداب والرياضيات والفلك بجامعة كراكوفيا، وقضى عشر سنين بإيطاليا "بمدن بولونيا وروما وبادوفا" ويلوح أن أستاذه ببولونيا كان يشك في الفلك القديم. وتكونت عنده هو أصول مذهبه فيما بين الثالثة والثلاثين والسادسة والثلاثين، وقضى زمنًا طويلًا يعالجه وينقحه، ثم وضع كتابه "في الحركات السماوية" ولكنه لم ير نشره إلا في آخر حياته، فجاءته نسخة مطبوعة منه، وهو على فراش الموت فاقد الوعي.
ب- أراد أن يتصور السماء على نحو أبسط من تصور أرسطو وبطليموس، ورائده أن دأب الطبيعة إدراك غاياتها بأبسط الوسائل، فرأى أن بقاء أكبر الأجرام ثابتًا على حين تتحرك من حوله الأجرام الصغرى، أكثر تحقيقًا لهذا المبدأ من
1 / 17
دوران الأجرام جميعًا حول الأرض. وأضاف إلى مبدأ البساطة مبدأ النسبية حيث قال: إن الإدراك الحسي لا ينبئنا بداهة، حين تحدث حركة في الفضاء، إن كان المتحرك هو الشيء المحسوس، أو الشخص الحاس، أو إن الاثنين يتحركان بسرعة مختلفة، أو في اتجاه مختلف؛ فإذا افترضنا الأرض متحركة، وهي المكان الذي نشاهد منه الحركات السماوية، حصلنا على صورة للعالم أبسط من الصورة المبنية على افتراض الأجرام السماوية هي المتحركة. وينحصر جهد كوبرنك في التدليل الرياضي على أن الفرض الأول يدع الظواهر كما تبدو للإدراك الحسي. فالنظرية الجديدة معروضة هنا كمجرد فرض، وقد عني الناشر بالتنبيه على ذلك في المقدمة، فلم يثر الكتاب اعتراضًا. وهذه النظرية قال بها أرسطرخس الفيثاغوري، وذكرها شيشرون في أحد كتبه، وقرأها كوبرنك، فعمل على تأييدها، أو بعبارة أصح، على بيان إمكانها.
١٢ - لويس فيفيس " ١٤٩٢ - ١٥٤٠ ":
ولد في بلنسية من أعمال أسبانيا. درس في باريس، وقضى باقي حياته في بلجيكا. كان من القائلين بوجوب اتخاذ التجربة أساسًا للمعرفة، وقد طبق هذا القول في كتاب له "في النفس والحياة" " ١٥٣٨ " جمع فيه مواد كثيرة مستمدة من القدماء، وملاحظات شخصية كثيرة، وتحليلات دقيقة للظواهر النفسية. فهو يصرح بأن صعوبات جمة تعترض الفحص عن ماهية النفس، وأن العلم بما ليست النفس أيسر من العلم بما هي، وأن لا فائدة من معرفة ماهيتها، بل الفائدة في معرفة وظائفها، فعلم النفس عنده فسيولوجي وصفي. وهو يتصور النفس مبدأ للحياة بجميع مظاهرها، وليس فقط للحياة الفكرية، ويجعل من الدماغ مركز المعرفة؛ خلافًا للأرسطوطاليين الذين كانوا يضعونها في القلب. على أنه يضع في القلب القوة الحيوية، بحجة أن القلب موضع أول مظهر وآخر مظهر للحياة، وموضع الانفعالات. وهو مع ذلك روحي، يقول: إن النفس الإنسانية مخلوقة من الله مباشرة، وإن النفسين النامية والحاسة متولدتان بقوة المادة. ودليله على روحية نفس الإنسان أنها لا تقنع بالمحسوس المتناهي، ولكنها تواقة إلى اللانهاية. وقد كان له أثر قوي للغاية على النظريات النفسية في القرنين
1 / 18
السادس عشر والسابع عشر؛ وديكارت يدين له بالشيء الكثير، ويذكره في غيرما موضع، وله آراء قيمة في التربية والتعليم.
١٣ - كبلر " ١٥٧١ - ١٦٣٠ ":
ولد في إحدى مدن ورتمبرج. درس الآداب والفلسفة واللاهوت والرياضيات والفلك في المدرسة الأكليريكية بتوبنجن. ثم انصرف عن اللاهوت إلى تدريس الرياضيات، وكان يرى فيها أكمل العلوم، ويرى وجوب اتباع منهجها في كل علم؛ لأن الروح الإلهي يتجلى بالنظام والقانون، ولأن العقل الإنساني يدرك النسب الكمية بأوضح مما يدرك أي شيء آخر، ولا يصل إلى اليقين التام إلا باعتبار الوجهة الكمية. وكان أول اتجاه كبلر إلى وضع نظرية جديدة توفق بين نظرية كوبرنك ونظرية العقول المحركة للكواكب، ولكنه عاد فآثر أن يفترض عللا "طبيعية" واستعاض بالقوة عن العقل المحرك. وبعد بحوث طويلة استعاض بالإهليلج عن الدائرة التي كانت معتبرة أكمل الأشكال، وأيد نظرية كوبرنك بأن اكتشف مدارات السيارات وقانون حركتها. وفي أول كتاب له خصص فصلًا للتوفيق بين نظرية كوبرنك والتوراة؛ وكان بروتستانتيًّا، فلما راجع المخطوط أساتذة اللاهوت بجامعة توبنجن البروتستانتية، حذفوا منه ذلك الفصل، فلم يظهر في الكتاب المطبوع " ١٥٩٦ ". وفي سنة ١٦٠٨ أراد أن ينشر في ليبزيك تقريرًا مفصلًا عن النجم المذنب الذي ظهر في السنة السابقة، فأصرّ لاهوتيو المدينة البروتستانت على أن يمتنع من النشر.
١٤ - جليليو " ١٥٦٤ - ١٦٤٢ ":
أ- ولد بمدينة بيزا من أعمال إيطاليا. وفي السابعة عشرة دخل جامعتها لدراسة الطب نزولًا على رغبة والده، ولكنه كان يتلقى في الوقت نفسه الفلسفة والرياضيات والفلك، مع شغف كبير باليونانية واللاتينية والشعر والموسيقى والرسم، وإيثار لأفلاطون وأرشميدس على أرسطو. وبعد ثماني سنين صار أستاذًا بالجامعة فمكث بها ثلاث سنين " ١٥٨٩ - ١٥٩٢ " ثم انتقل إلى جامعة بادوفا، فقضى بها سبع عشرة سنة " ١٥٩٣ - ١٦١٠ " وكان يعرض الفلك القديم مع اعتقاده
1 / 19
بنظرية كوبرنك، شأن غير واحد من أساتذة العصر، وفي سنة ١٦٠٩ صنع التلسكوب، فرأى جبال القمر ووديانه، وأقمار المشتري الأربعة، وعين قانون حركتها. وفي مارس من السنة نفسها نشر كتابًا بعنوان "رسول من النجوم" عرض فيه كشوفه، وأعلن انحيازه لنظرية كوبرنك؛ فلقي هذا الكتاب نجاحًا عظيمًا، وغادر جليليو بادوفا إلى فلورنسا إجابة لدعوة الغراندوق. وفي أواخر السنة اكتشف كلف الشمس، فاستنتج من حركة الكلف على قرص الشمس دوران الشمس نفسها، وفساد الرأي القديم الذي يقسم العالم إلى منطقة سفلية هي محل الكون والفساد، وأخرى علوية بريئة منهما. ودعا أتباع أرسطو إلى النظر بالتلسكوب، ويذكر أن ملانكتون، الزعيم البروتستانتي، وكريمونيني، أستاذ بادوفا، رفضا هذه الدعوة غيرة منهما على مذهب أرسطو، وفي سنة ١٦١١ ذهب جليليو إلى روما، فأحسن البابا بولس الخامس وفادته، واحتفى به فلكيو المعهد الروماني؛ ثم عاد إلى فلورنسا.
ب- وما كاد يستقر فيها حتى صدر كتاب لأحد علمائها "في الفلك والبصريات والطبيعيات" " ١٦١١ " يتهمه بمخالفة التأويل السلفي للكتب المقدسة، فرد عليه جليليو في ٢١ ديسمبر ١٦١٢ برسالة موجهة إلى الراهب البندكتي كاستلي، أستاذ الرياضيات بجامعة بيزا الذي كان يقول بدوران الأرض، ودفع التهمة بتأويل النصوص الكتابية المعترض عليها طبقًا لنظريته، ثم عاد فأسهب في هذا الموضوع في رسائل أخرى. وفي ٥ فبراير ١٦١٥ أحال أحد الرهبان الدومنيكان إلى ديوان الفهرست، وهو الديوان المكلف بمراقبة الكتب ووضع الخطر منها في ثبت الكتب المحرفة، ورسالة جليليو إلى كاستل. فقام الديوان بالتحقيق مع جليليو، ونصحه الكرادلة دلمونتي، الذي كان رشحه للأستاذية بجامعة بيزا، وبلارمينو، من كبار رجال الكنيسة، وباربريني، الذي صار فيما بعد البابا أوربان الثامن، بأن يقتصر على التدليل العلمي، ويعرض نظريته على أنها فرض أبسط من النظرية القديمة، ويدع تفسير الآيات الكتابية إلى اللاهوتيين ولكنه لم يستمع إلى هذه النصيحة. ونشر تفسيرًا جديدًا لبعض الآيات، فأعلن إليه ديوان التفتيش في ٢٥ فبراير ١٦١٦ أن يمتنع من الجهر برأيه، فوعد بالامتناع. وفي ٥ مارس قرر ديوان الفهرست تحريم كتاب كوبرنك "ما لم يصحح" وأغفل
1 / 20
ذكر كتاب جليليو مراعاة له. ومعنى قول الديوان: "ما لم يصحح" أنه يأذن بطبع الكتاب نظرًا لفائدته بشرط تصحيح المواضع التي يتحدث فيها المؤلف عن حركة الأرض ومكانها من العالم "لا كمجرد فرض بل كحقيقة" كما جاء في تفسيره لقراره بتاريخ ١٥ مايو ١٦٢٠.
ج- وفي ١٦١٨ ظهر نجم مذنب، فنشر جليليو "أو أحد تلاميذه فيما يقال" "مقالًا في المذنبات". فرد عليه أحد اليسوعيين من أساتذة المعهد الروماني فصنف جليليو كتابًا في شكل رسالة موجهة إلى أحد رجال الدين المعروفين، أسماه "المحاول" " ١٦٢٣ " أي: محاولة في المنهج التجريبي، وحمل فيه حملة عنيفة على الفلك القديم، فأخلف وعده مرتين. على أن البابا "أوربان الثامن" استقبله بروما في السنة التالية ست مرات، وشمله بعطف كثير. وبعد ثماني سنين " ١٦٣٢ " أذاع جليليو كتابه المشهور "حوار يناقش فيه أربعة أيام متوالية أهم نظريتين في العالم" يقتصر فيه ظاهرًا على سرد الحجج في جانب كل نظرية، وينم أسلوبه عن الجانب الذي يميل إليه. فعهد البابا إلى لجنة بفحص الكتاب، وأعلن ديوان التفتيش إلى جليليو بالمثول أمامه، فاعتذر باعتلال صحته، وبعد خمسة أشهر " ١٣ فبراير ١٦٣٣ " وصل إلى روما، فلم يحبس كما كان مألوفًا. ولما سئل أجاب أنه ما زال منذ قرار ديوان الفهرست يعتبر رأي بطليموس حقًّا لا يتطرق إليه الشك، وكرر هذا الجواب، فكان كاذبًا مرتين. فطلب إليه التوقيع على جوابه وصرف، وفي اليوم التالي قرئ عليه الحكم، فإذا بالحكم يعلن أن شبهة قوية قائمة على جليليو بالخروج على الدين لقوله بمذهب كاذب منافٍ للكتاب المقدس، ويطلب إليه أن ينكره، وأن يقسم بأن لا يقول أو يكتب شيئًا يمكن أن يستنتج منه هذا المذهب. فأنكر وأقسم وهو راكع على ركبتيه، ثم وقع بإمضائه على صيغة الإنكار والقسم. ويروى أنه بعد التوقيع ضرب الأرض برجله وقال: "ومع ذلك فهي تدور" ولكن هذه الرواية لم تذكر لأول مرة إلا سنة ١٧٦١، وهي إن صحت كانت شاهدًا ناطقًا بريائه أو كذبه مرة ثالثة.
د- وكان الحكم يقضي عليه بالحبس، ولكن البابا عين إقامته في قصر سفير توسكانا صديق جليليو. وبعد بضعة أيام تركه يذهب إلى مدينة سيين حيث نزل عند أحد الكرادلة من أصدقائه أيضًا. وبعد خمسة أشهر طلب الإذن
1 / 21
بالذهاب إلى فلورنسا، فأجابه البابا إلى طلبه. فعاش هناك "سجينًا بالشرف" فكان يواصل بحوثه الرياضية، ويستقبل من يقصد إليه من العلماء والكبراء. وفي سنة ١٦٣٨ نشر كتابًا بعنوان "مقالات في علمين جديدين" يحوي أصول العلم الحديث في الميكانيكا والطبيعة، ولكنه طبع في هولندا هربًا من المراقبة قبل الطبع. وفي أوائل تلك السنة فقد جليليو بصره، وكانت وفاته بالحمى؛ وفي أثناء مرضه أبدى عواطف تقوى حارة، وأرسل إليه البابا بركته.
هـ- والحق أن "المجمع المقدس" أخطأ في الحكم بأن مذهب كوبرنك باطل منافٍ للكتب المقدسة. ولكن هذا لا ينال من الكنيسة بالقدر الذي يزعم الكثيرون؛ ذلك بأن الكنيسة تعلم أن عصمتها في العقائد والأخلاق قائمة في المجمع الكنسي العام، أي: الممثل للكثلكة جمعاء، متحدًا مع البابا وفي البابا نفسه، ناطقًا باسم الكنيسة وفارضًا نطقه صراحة على جميع المؤمنين. والحكم هنا صادر عن هيئة خاصة؛ وهذه الهيئة إن كانت أنكرت النظرية الجديدة، فهي لم تمانع في إذاعتها كمجرد فرض علمي. فلم يكن رائدها التعصب ضد العلم، بل صيانة الكتب المقدسة لصيانة الدين والأخلاق، وكل ما يمكن أن يقال هو أن غيرة رجالها على الدين أربت على فطنتهم، ولكن يجب أن نذكر أن النظرية القديمة كان يؤيدها البروتستانت أيضًا، وقد مر بنا موقف لاهوتييهم من كبلر؛ كما كان يؤيدها جميع الأرسطوطاليين من مؤمنين وملحدين. ثم إن أدلة جليليو لم تكن برهانية، وهذه نقطة جديرة بالتنويه، فكان خصوم نظريته يناقشونها وينقدونها، وقد قال الكردينال بلارمينو، في رسالة ترجع إلى سنة ١٦١٥ موجهة إلى أحد الرهبان المناصرين لمذهب كوبرنك: "لو كان هناك برهان حق على دوران الأرض وثبات الشمس، إذن لتعين الحذر الشديد في تفسير آيات الكتاب المقدس، ولكان أحرى بنا أن نقول: إننا لا ندرك معناها، من أن نكذب ما قام عليه البرهان، ولكني لن أعتقد بقيام هذا البرهان قبل أن يبين لي". وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد، إذ لم تعد الكنيسة تحرم الاعتقاد بمذهب كوبرنك، بل صارت تحمل الآيات على محمل التعبير بالظاهر، كما نقول نحن الآن: طلعت الشمس وغربت، وماذا يقول الشانئون لمن يذهب من علمائنا المعاصرين إلى أن نظرية كوبرنك مجرد فرض، وأن ميزتها على النظرية الأخرى تنحصر في
1 / 22
بساطتها ليس غير؟ فيصرح أحدهم، هنري بوانكاري، بأن هاتين القضيتين: "الأرض تدور" و"افترض دوران الأرض أكثر نفعًا في العلم" هما معنى واحد بعينه، وليس يوجد في إحداهما أكثر مما يوجد في الأخرى ١.
ووبعد، فأهمية جليليو في تاريخ الفلسفة ترجع إلى نقطتين: إحداهما المنهج العلمي، والأخرى بناء النظرية الآلية. فمن الناحية الأولى نجده يقول عن المنطق الصوري: إنه مفيد في تنظيم التفكير وتصحيحه، ولكنه قاصر عن استكشاف حقائق جديدة وليس يحصل الاستكشاف باستقراء جميع الحالات الممكنة، فإن مثل هذا الاستقراء مستحيل، وإنما يحصل الاستكشاف باستخلاص فرض من تجارب معدودة "وهذه مرحلة تحليلية" ومحاولة تركيب قياس يبين أن ذلك الفرض مطابق لتجارب أخرى "وهذه مرحلة تركيبية" بحيث يتكامل التحليل والتركيب ويتساندان. وهذا يعني أن المنهج العلمي هو الاستقراء الناقص مؤيدًا بالقياس، والاستقراء ممكن حتى ولو لم نستطع أن نجد أو نوجد في الطبيعة الفرض الذي نستخلصه. مثال ذلك، نفترض أن الأجسام تسقط في الخلاء بنفس السرعة، ولكننا لا نستطيع تحقيق الخلاء المطلق، فنستعيض عنه بالنظر إلى ما يحدث في أوساط يتفاوت هواؤها كثافة، فإذا رأينا السرعات تتقارب كلما تخلخل الهواء، حكمنا بأن الدليل قد قام على صحة الفرض.
ز- ومن ناحية النظرية الآلية، يقول جليليو: إن هذه النظرية أقرب إلى مبدأ البساطة الذي قال به كوبرنك. فالعلم مادة وحركة، أما الحركة فخاضعة لقانون القصور الذاتي، وكان كبلر قال: إن الجسم لا ينتقل بذاته من السكون إلى الحركة، وقال جليليو: إن الجسم لا يغير اتجاه حركته بذاته، أو ينتقل بذاته من الحركة إلى السكون، وبين بالتجربة أن الحركة تستمر بنفس السرعة كلما أزلنا العوائق الخارجية، فمتى وجدت الحركة استمرت دون افتقار إلى علة. وأما المادة فمجرد امتداد، ويقول جليليو: إنه لم يستطع قط أن يفهم إمكان تحول الجواهر بعضها إلى بعض، أو طروء كيفيات عليها، كما يذهب إليه أرسطو؛ ويرتئي أن كل تحول فهو نتيجة تغير في ترتيب أجزاء الجسم بعضها بالنسبة إلى بعض، وهكذا لا يخلق شيء ولا يندثر شيء، فالتغيرات الكيفية عبارة عن تغيرات كمية
_________
١ Henri poincare، La science et pnypo hese،p." ٤ ".
1 / 23
أو حركات. وينقلب العلم الطبيعي علمًا رياضيًّا ينزل من المبادئ إلى النتائج، ويسمح بتوقع الظواهر المستقبلة؛ لذا كان مبدؤه قياس ما يقبل القياس، ومعالجة ما لا يقبله مباشرة حتى يصير قابلًا له بصفة غير مباشرة. ويصرح جليليو أن الأعراض التي يصح إضافتها للأجسام هي: الشكل والمقدار والحركة والسكون ليس غير، ويسميها لذلك بالأعراض الأولية أو العينية الملازمة للأجسام بالضرورة؛ أما الضوء واللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة والبرودة، فما هي إلا انفعالاتنا بتأثير الأجسام الخارجية، وهي كيفيات ثانوية. وهذا يعني أن ما لا يقاس "كما هو حال الإحساسات بالكيفيات الثانوية" فهو غير عيني أو موضوعي، وكان المنطق يقضي على جليليو بأن يقتصر على القول بأن ما لا يقاس فهو خارج عن العلم الطبيعي الرياضي، لا أن يقول: إنه غير موجود. وقد كان هذا الاعتقاد بذاتية الكيفيات المحسوسة مدعاة للشك في المعرفة، ومزلقة إلى التصورية التي تدعي أننا لا ندرك سوى تصوراتنا. وبكلمة واحدة: إن جليليو يبعث مذهب ديموقريطس، ويظنه صورة للوجود، وسيمضي في إثره العلماء المحدثون.
1 / 24