تاریخ فلسفہ عالمی
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
اصناف
إن رفض تجميد تاريخ الفلسفة في مجموعة من الحقائق الموضوعية، القطعية، النهائية، لا يمنع ضرورة اكتسابه شكلا ملائما، فلا بد له من أن يتخذ شكلا كليا بالنسبة لعصره ولقدرة المفكرين المعاصرين على الفهم. وهذا التصور التاريخي الشامل يسهم في تحديد شكل التفلسف الحاضر. فإذا تغير التفلسف تغيرت معه طريقة تصور تاريخ الفلسفة واستيعابه.
ومعرفة هذه التغيرات تؤثر حتما على طريقة الاستيعاب. صحيح أن هذا الاستيعاب يلجأ إلى صور ثابتة، ولكنه يحرص على الاحتفاظ بقدرته على الحركة والتغير الممكن. وتنشأ رؤية جديدة لتاريخ الفلسفة عندما يتغير التفكير الفلسفي نفسه فجأة بحيث تبدو الصور التي دأب تاريخ الفلسفة على استخدامها حتى ذلك الحين محرفة أو مشوهة، ويطرح الناس على أنفسهم هذا السؤال: ما الصورة التي يجب أن يتخذها تاريخ الفلسفة في ظل الظروف والأوضاع الجديدة؟ كيف نتصوره، على سبيل المثال، تصورا وجوديا؟ وكيف يتعرف تفكيرنا الفلسفي الخاص على تفكير العصور القديمة؟ بل كيف نعرف أن تفكيرنا - الذي تصورنا للحظة واحدة أنه جديد كل الجدة - ينعكس على صفحة التفكير القديم الموغل في القدم؟ وكيف نقضي على وهم الجدة بحيث تشف من خلال الثوب التاريخي المعاصر تلك الفلسفة الخالدة التي تربطنا بجميع الفلاسفة السابقين؟ (4)
إذا كان الاستيعاب الأمثل للفلسفة يقتضي التخلي عن كل وجهة نظر، وإسقاط كل نسق أو تخطيط مسبق، فإن رائدنا في ذلك لن يكون شيئا قليلا (كأن نقع في السوقية والفوضى)، بل سيكون كثيرا، سيكون هو الواقع وهو الحقيقة التي نحيا عليها، ونقيس ونحكم، ونقبل ونرفض وفقا لها، بحيث لا نجمد أو نثبت عند معيار موضوعي معين. وسيكون علينا أن نحافظ على رحابة هذا الواقع وعمقه وثراء معانيه كما خبرناه في تفكيرنا الفلسفي، وتعرفناه في فلسفات الماضي. وستزداد قدرتنا على الكشف بمقدار قربنا من الواقع.
إن أية محاولة تهدف للوصول إلى معرفة ثابتة - حتى ولو كانت غامضة - بالواقع والحقيقة بمعناهما الفلسفي ستكون في النهاية معرفة غير كافية، وستلجأ إلى التفسير السطحي الذي يبسط كل شيء، سواء في ذلك أقدمت المنفعة العملية للمعرفة أم جعلت الصدارة للدقة اليقينية الملزمة. وسترجع بوجه خاص إلى المعرفة التجريبية والموضوعية في علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الحياة (وعندئذ تصبح الفلسفة وظيفة للحياة، ويستوي في ذلك أن تمد الناس بالأوهام الضرورية وتحجب عنهم العيوب والشرور، أو أن تصبح نوعا من العلاج النفسي أو قوة دافعة على الانطلاق)، أو ترد إلى الوضوح العلمي للوعي بوجه عام، أو إلى الأخلاقية التي تضع المثل العليا وتشرع قواعد السلوك. لا شك أن كل هذه الاتجاهات تحتوي على جزء من الحقيقة، ولكن التفسير الذي يستوعب تاريخ الفلسفة بأكمله ينبغي عليه أن يجعل تعدد أبعاد حقيقة فعلية تتمثل في تشابكها اللانهائي وحركتها المتصلة (ولا تجعل منها مجموعا مركبا من عناصر بسيطة)، كما ينبغي عليه ألا يهمل المعطيات المباشرة الملموسة (كالمواقف الاجتماعية والأمراض العقلية ... إلخ) بل يقبلها على ما هي عليه، ويسجلها ويحدد أهميتها، دون أن يتجاهل الجوانب الخيالية العجيبة، بل يحاول جهده أن يكتشفها ويستخلص منها مضمونا واقعيا. غير أن تعدد التفسيرات على هذه الصورة أمر يتهدده التشتت والتفتت، فأين نجد المركز؟ أين نعثر على الواحد والكل الذي يتعلق به كل شيء ويرجع إليه كل تفسير؟ إنه تكشف الوجود في الإنسان؛ فمن خلال جميع أشكال الشامل - الذي يكون هو نفسه، ويعرف فيه نفسه بوصفه وجودا يستشرف العالي - يحقق الإنسان ما يدرك أنه وجوده الأبدي تحقيقا تاريخيا، بحيث يرتبط وجوده بالمعرفة التي يحصلها، ويصبحان شيئا واحدا. (5)
إذا كان «الشامل» هو الأصل في كل محاولة لاستيعاب تاريخ الفلسفة، وهو الموضوع الذي لا سبيل للوصول إليه، فإن هذا الاستيعاب يتم بطريقة عينية ومحددة من خلال موضوعية المعطى في الواقع؛ أي من خلال دلالته، وتخطيطه، ومشروعه، والهدف منه ... إلخ، وينظر مؤرخ الفلسفة فيرى أمامه المجال الشاسع الذي تتراكم فيه مواد لا حياة فيها، ويبدأ بفرز هذه المواد على مستوى الوقائع ووضعها في غربال النقد العلمي. والحقيقة أن «الشامل» هو المعنى والواقع في آن واحد، وكلاهما لا يفهم إلا بطريقة غير مباشرة في شيء اتخذ صورة موضوعية محدودة. وعلينا أن نتحسس حركات الشامل من خلال الوقائع. ولهذا ينبغي البدء بفحص الوقائع وتمحيصها للتأكد مما حدث في الواقع، ثم تأتي لحظة الإنصات والاستبار واستكناه حقيقة ما كان.
بهذا ينشق الواقع للحظة إلى واقع تجريبي وآخر جوهري. ونلاحظ شيئا يتحقق بأعمق ما للتحقق من معنى، ولكنه يبقى معزولا، معدوم الأثر، ويسقط في النسيان. ومن طبيعة الذروة العالية أن تتخذ محاولة الاقتراب منها في تاريخ الفلسفة هذا الطابع المؤقت؛ فليس من الممكن أن نثبتها في صميم الأصل، بل يتحتم محاصرتها والدوران حولها من الخارج - ربما يستطيع المؤرخ أن ينفذ إليها بتفسيره، ولكن يستحيل عليه الإحاطة بها. وأسباب تأثيرها أو عدم تأثيرها على مجال الواقع لا تكمن فيها هي وحدها، وإنما ترجع كذلك إلى مواقف جزئية وشروط خارجية؛ بحيث إن التفسيرات التجريبية التي تقدم لها لا تكون أبدا تفسيرات نهائية شاملة.
وعمليات التحريف والتعديل التي تتعرض لها «الذروة» وتجعلها تتحول إلى أشكال تساعد على انتشارها واتساع نطاق تأثيرها عمليات ملازمة لطبيعتها، ولكنها ليست قوانين مطلقة بغير استثناء؛ فهي تلقي الضوء على النتائج، ولكنها لا توضح الجوهر نفسه.
إن تاريخ الفلسفة بمعناه الحقيقي هو حركة صيرورة التفلسف الذي ندركه عندما نقترب منه لمحاولة فهمه، ونتأمل عالمه، ونتدبر نتائجه، ولكن أصول هذا التفلسف هي الحد الذي ينطلق منه كل شيء، ويتجه إليه كل شيء، وإن كان من المحال أن تصبح موضوعا أو واقعا يمكن بيانه بطريقة موضوعية محددة. وأكثر تفسيرات تاريخ الفلسفة حظا من التفلسف هي تلك التي تمكننا من الإحساس بالذرى، والأصول التي يتوقف عليها كل شيء، وتساعدنا على ألا نفقد علاقتنا معها، وأن نبقى على صلة مستمرة بها.
بهذا يمكن أن يتحول البحث في تاريخ الفلسفة في نهاية الأمر إلى مصدر تأثير وفاعلية فلسفية متجددة، فلا يستبعد أن ينطوي المجال الفسيح - الذي تتكدس فيه أنقاض المواد والمعلومات التي يخيم عليها الموت - على بذور خفية يمكن أن تبعث إلى الحياة أو أن تدب فيها الحياة لأول مرة، وذلك إذا استطعنا أن نعثر عليها، ونتعرفها، ونعيد غرسها مرة أخرى. لقد كان هنا شيء لم يسمع له صدى، وهو ينتظر من يستخرجه من النصوص ويفسره، عندئذ يظهر للنور وتزدهر فيه الحياة. ولا يندر في التاريخ أن نعثر على حركات جديدة انبثقت من معطيات أو «لقى» تاريخية تم الكشف عنها، فقد تعلم الإنسان كيف يقرأ نصا ويفك رموزه، بعد أن ظل قرونا طويلة ضحية عدم الفهم أو سوئه. (6)
إن مؤرخ الفلسفة يجد أمامه فرصة اختيار المفكرين الذين يمكنه أن يرتبط بهم ويتخذهم قدوة أو يعدهم على العكس أضدادا له، وهناك تنفسح أمامه طرق ودروب غير مطروقة يكون حرا في أن يسير فيها أو يتجنبها. كذلك فإن وضوح اختياره هو الذي يلقي الضوء على ميوله ودوافعه.
نامعلوم صفحہ