تاریخ فلسفہ عالمی
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
اصناف
هناك معارف دقيقة تتخطى الزمان. هذا أمر لا ينكره أحد، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه المعارف هي كل شيء؟ وهل تنحصر الحقيقة في إدراك العلاقات الدقيقة؟ أم أن بجانب المعرفة الموضوعية المضبوطة ومن فوقها معرفة أخرى ممكنة تضيء كل أحوال الشامل وجهاته، معرفة لا تتوقف ولا تنغلق على نفسها، بل تتيح للحرية أن تشف وتتكشف لذاتها؟ من هنا تصبح كل معرفة بالموضوعات مجرد وسيلة، وهي لن تبلغ الكمال في ذاتها أبدا، على حين أن وضوح الشامل - الذي يعد وعيا بالحاضر الأبدي - لن يتحقق إلا في صورة زمنية، ولن يكون إلا وعيا تاريخيا. وإذن فلن تغدو الدقة التي تتخطى الزمان حقيقة نهائية في ذاتها، بل سيصبح الماضي، بكل ما يملؤه، أساسا يرتكز عليه وجودي. صحيح أننا نجرب الزمانية بوصفها ظاهرة، أو نجربها على مستوى الظواهر ، ولكن هذه الزمانية وحدها هي التي تسمح لنا ببلوغ ما هو حق وجوهري. وليس من سبيل إلى تجاوزها إلا بالعلو والاتجاه نحو المتعالي، نحو اليقين بحضور أبدي لا أحصل عليه إلا إذا بلغ إحساسي بالزمان أقصى درجاته، كما أفقده فقدا تاما حين أواجه لا زمانية المعارف الدقيقة التي تزعم لنفسها الأبدية. ذلك أن هذه المعارف الدقيقة تنطوي في الواقع على تجاوز زائف للزمان عن طريق نفيها له، في حين يتحتم على التجاوز الصحيح - بوصفه ظاهرة - أن يتخذ صورة زمنية. إن الحقيقة هي الماضي، ولكن ليس هو الماضي الميت الذي يتمثل في المعرفة بما مضى، بل هو الماضي الذي لا يمكن أبدا أن يقال عنه ببساطة إنه قد انقضى، والذي يبقى بفضل حريتي. وهذه الحرية تكون حرة بقدر ما ألتزم - في وجودي نفسه - بالإحساس بالمسئولية والذنب تجاه أفعال قديمة قدم الماضي الذي التزمت بنفسي خلاله، ولا زلت ألتزم بها إلى اليوم.
إذا كانت الحقيقة ترتبط بالزمان بوصفه الشكل الضروري لظهورها وتجليها، وإذا كانت الحقائق العلمية الدقيقة التي تتخطى الزمان لا تعدو - إن صح هذا التعبير - أن تكون هي الهيكل العظمي الذي يتضح الوجود ويتكشف من خلاله - وبذلك لا تكون شيئا مستقرا في ذاته بل شيئا مضادا للحرية؛ إذا صح هذا كله فلن يكون التاريخ شيئا نعرفه من الخارج، بل سيصبح حاضرا نحيا فيه. إنني لم أصبح ما أنا عليه من فراغ؛ فماضي هو التاريخ. وأنا أحصل الفلسفة الماضية عندما أتفلسف، ويرقى تفلسفي إلى المستوى الوجودي ويزداد حظه من الامتلاء بقدر ما تتكشف علاقتي بفلاسفة الماضي العظام وتزداد حضورا، وبقدر ما أتلقى عنهم، وأدخل في عراك معهم، وأجد نفسي من خلالهم. وإذا كنت فردا له مصيره الفردي، فإنني لا أكون إنسانا بحق حتى أشارك في مصير العقل البشري، أي في تاريخه، وأجل الذين صنعوه، وأحبهم، أو أنقدهم وأدخل في صراع معهم.
من المحال أن نلغي شيئا تم وقوعه حقا، أو نجعل الماضي كأن لم يكن، وكما أن استيعاب الماضي - خلال الزمان - وإضاءته وتوضيحه هي التي تتيح لي تعميق وجودي الشخصي وتغييره أو إضاعته وفقده، فإن التاريخ الذي يحيا في الحاضر ليس على الإطلاق مجرد رصيد من الآراء الجامدة والمعارف الثابتة التي لا يمكن تغييرها، ولا هو مجموعة من الأفعال التي حسمت وانتهى الأمر، ولكنه يظهرنا - عن طريق الحرية - على أعماق جديدة وإمكانات لن تخطر على البال. والتاريخ يتحول من الناحية الباطنة تحولا لا يتوقف، في حين يظل ثابتا لا يقبل التغيير في واقعه الخارجي. ونحن كلما استوعبناه استيعابا باطنيا استعاد حضوره، وبعثت أطيافه حية بدم الأحياء الذين يقتربون منها بكل ما في وجودهم من جدية. عندئذ تستأنف الأطياف حياتها وتتفتح وتزدهر.
بهذا المعنى يتصل المتفلسف بفلاسفة الماضي ويصبح شاهدا على تواصل تم تحقيقه. وكلما تغلغل بعمق في هذه المملكة التي تهيم فيها العقول والأرواح وتحفها الأسرار، تبين له بوضوح كيف يتصارع بعضهم مع بعضهم، وكيف يتشابكون في تفاعل تسوده المحبة، وكيف يردون الحياة لبعض الموتى ويعيدونهم إلى الحاضر في صورة جديدة، أو يهملون بعضهم الآخر ويسلمونهم للضياع والنسيان. أليس عجيبا أن يكون أوفر الناس حظا من الحياة هو أقدرهم على السكن مع الموتى، وأن يكون ناسيهم فقيرا في الحياة؟ إن علامة الوجود الطبيعي الخالص أن صاحبه يحيا حياته يوما بيوم. أما علامة الوجود الحق فهي عدم الاستسلام للدورة الموضوعية للزمان اللانهائي، وإحالتها إلى شكل زمني - أي إلى حاضر فماض فمستقبل - دون أن يفقد القدرة على رؤية ذاته أو رؤية الحقيقة. عندئذ يصبح الزمن كيانا باطنا، ويغوص الوجود الحميم في الماضي كأنه يغوص في الأبدية، كما يلقي التفكير التأملي وإرادة التحقيق والإنجاز العملي بنفسهما أمام المستقبل. حينئذ يبدو كأن الأدوار تعكس أو تتبادل؛ إذ لا يكتسب المستقبل عمقه إلا من الماضي، كما أن الماضي يصبح مجرد امتداد ميت بدون الحرية والحاضر والمستقبل. وها هو ذا الشاعر كونراد فرديناند ماير (1825-1898م) يعبر عن هذا في أنشودته «جوقة الموتى» التي تبدأ بهذه السطور:
آه آه! نحن الموتى! نحن الموتى! نحن جحافل جرارة
أكثر عددا من أكثركم في اليابسة وفوق بحور هدارة.
ثم يستطرد فيقول:
وكل ما بنينا أو بدأنا في ظروف صعبة
لا زال يجري في الينابيع مياها عذبة،
وكل حبنا، وكرهنا، صراعنا على الطريق
نامعلوم صفحہ