وتوفي في حدود الثمانين والمائة. (5)
الخليل بن أحمد الفراهيدي: سيد أهل الأدب وإمام المصنفين في لغة العرب، وبه يبدأ الطور الثاني من أطوار الرواية المقرون بطور التأليف، وسوف نترجم له في غير هذا الموطن، ولكنا نقول هنا: إن الخليل أول من دون اللغة، ورتب ألفاظها على حروف الهجاء ترتيبا لم يسبق إليه في كتابه المسمى «كتاب العين»، وبكتابه هذا يفتح الطور الثاني وهو طور الرواية والكتاب. (9) طور الرواية والكتاب
نهج الخليل في جمع اللغة واستيعابها طريقة مبتكرة اخترعها لنفسه، واقتفى أثره فيها الجم الغفير ممن جاءوا بعده من اللغويين في ترتيب الحروف؛ منهجا خاصا لم يمش عليه الناس من بعده، وهو أنه رتبها على حسب ترتيب مخارجها الطبيعية مبتدئا من الحلق ذاهبا إلى اللسان فالشفتين، وجعل أولها العين ثم ما قرب مخرجه منها الأرفع فالأرفع حتى أتى على آخر الحروف.
إن للمؤلفين في اللغة أسلوبين: أحدهما يبتدئ باللفظ وينتهي بالمعنى والثاني بالعكس، مثال الأول ما إذا قيل: «القطار: عدد من الإبل مقطورة على نسق واحد، والقطر: النحاس، والقطر: الجهة والناحية، والقطر: المطر»، ومثال الثاني ما إذا قلت: «ولد الناقة يسمى الحوار، وولد الغزالة يسمى الخشف، والنوم الخفيف يسمى السنة»، فالذي يذهب من جانب اللفظ إلى المعنى يرمي في الغالب إلى تسهيل إيضاح معاني الكلام على السامع والقارئ، فإن من سمع كلاما منظوما أو منثورا وغم عليه معاني بعض ألفاظه فإنه يرجع في إيضاح ذلك إلى المعاجم المؤلفة على الطريقة الأولى فيجد فيها ضالته، والذي يذهب من جانب المعنى إلى اللفظ يرمي على الأكثر إلى تسهيل إنشاء الكلام على اللسان والقلم، فإن من تصور معنى أراد التعبير عنه وغاب عنه اللفظ الدال عليه يستعين على وجدانه بالكتب المؤلفة على الطريقة الثانية ، ومن ثم نجد أكثر الناس انتفاعا بهذه الكتب أولئك الذين يعنون بترجمة الكلام الأجنبي، لأنهم يجدون أمامهم من المعاني ما تحتاج إلى قوالب من ألفاظ لا تحضرهم فيرجعون إلى هذه الكتب ليهتدوا بها إلى بغيتهم.
وإنما ألمعنا إلى هذا التقسيم لنبين أن مصنفي اللغة في هذا الطور انخزلوا إلى فريقين: فريق سلك الطريق الأول وعلى رأسهم الخليل بن أحمد، وفريق سلك الطريق الثاني وعلى رأسهم الأصمعي وأبو زيد وأضرابهما. فالخليل بن أحمد أول من ألف في اللغة على الأسلوب الأول فهو أبو عذرته، نعم، لا ينكر أن بعض معاصري الخليل ألف بعض الشيء على هذا الأسلوب كأبي عبيدة فإنه ألف في غريب القرآن وغريب الحديث، ولكن تلك التآليف في مواضع خاصة وأبواب معينة وعلى غير ترتيب يعتد به، فهي عبارة عن مجموع مباحث مبعثرة لا يضبطها ترتيب ولا يؤلف بينها نظام، أما الخليل فإنه نزع إلى طريقة علمية لم يسبق إليها على ما ستقف عليه مفصلا عند الكلام على ترجمته.
فطور الرواية والكتاب يفتتح بذينك الأسلوبين من التأليف على ما عرفت، وقد رأينا أن نسمي الأسلوب الأول «المسلك اللفظي» لأن البدء فيه يكون بجانب اللفظ ومنه ينتقل إلى جانب المعنى، والأسلوب الثاني «المسلك المعنوي» لأن البدء فيه يكون بجانب المعنى ومنه ينتقل إلى جهة اللفظ.
وينفرع عن كل واحد من هذين المسلكين فروع كثيرة، رأينا أن نجملها في هذا المكان لئلا نضطر إلى الرجوع إليها في مكان آخر فتفكك عرى البحث وتتباعد أواصره. (9-1) فروع المسلك اللفظي
سلك المؤلفون في ترتيب الألفاظ مسالك شتى لاعتبارات مختلفة، فمنهم من وجه همه إلى ضبط اللغة وإحصاء كلمها والتمييز بين مستعملها ومهملها، كما فعل الخليل بن أحمد في ترتيب كتاب العين وتبعه أبو بكر بن دريد في جمهرته، وقد علمت أن الخليل ابتكر أسلوبا في إحصاء مفردات اللغة لم يسبقه إليه سابق، كما ابتكر طريقة خاصة في ترتيب حروف الهجاء تنكب فيها الطريق الأبجدي القديم والترتيب العلمي المعروف ومال إلى الترتيب المخرجي الطبعي على ما أشرنا إليه آنفا، وأما ابن دريد فإنه لم يزد على ما جاء به الخليل من الترتيب والتبويب شيئا يذكر ولذلك جاءت جمهرته مقاربة لكتاب العين على ما فيها من الفوائد والأوابد التي خلا منها كتاب العين.
وقد حذا حذو هذين الإمامين ثالث هو أبو غالب تمام بن غالب المعروف بابن التياني القرطبي المتوفى سنة 433ه، فإنه وضع كتابا أتى فيه على ما في كتاب العين من صحيح اللغة وزاد عليه ما زاده ابن دريد في الجمهرة، فصار كتابه هذا محتويا على الكتابين معا وسماه «فتح العين». وبعد، فنحن نلقب هذا الترتيب ب «ترتيب الخليل»، ويعتبر الفرع الأول من المسلك اللفظي، وآخر من سلك هذا المسلك - على ما نظن - أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده والمتوفى سنة 458ه، فإنه ألف كتابه «المحكم والمحيط الأعظم» على ترتيب كتاب العين.
ومن اللغويين من وجه نظره إلى ضبط مفردات اللغة مع الالتفات إلى تسهيل أمر الحصول على المقصود في المراجعة عند الحاجة، فرتب الألفاظ معتبرا أواخر حروفها الأصلية أبوابا وأوائل حروفها الأصلية فصولا، كما فعل الجوهري في كتابه «صحاح اللغة» وتبعه مجد الدين الشيرازي في قاموسه وتبعهما خلق كثير.
نامعلوم صفحہ