وأما لغتنا العزيزة فهي - ولله الحمد - من أقوى اللغات على الهضم والتمثيل تنتزع اللفظة من أية لغة شاءت ثم تزدردها فلا تبرح أن تهضمها وتمثلها أيما تمثيل وتجري عليها تصاريفها وتصبح كأنها في الصميم منها، حتى إن علماء اللغة وأئمتها ليحارون في هذا الباب كل الحيرة ويتعسر بل يتعذر عليهم في كثير من الأحيان تمييز الأصيل من الدخيل حتى أدى الأمر ببعضهم إلى إنكار أن يكون فيها شيء من غيرها البتة، وانقلب الأمر على آخرين فأخذوا يفككون عراها وينكثونها نكثا ويخرجون ما هو منها في الذؤابة فينسبونه إلى غير أصله ويردونه إلى غير أهله، وما ظنك بقوم بلغ بهم الهوس في هذه الناحية حتى أخرجوا لفظ «الأدب» من صميم لغة العرب؟! وهذا لعمرك شذوذ في الشذوذ وتطرف في التطرف. ولسنا في مقام المناقشة لهؤلاء الناس في هذا الشأن لأن لنا معهم مقالا في غير هذا المقام، ولكنا نريد أن نقول إن أهم ما يجتنيه الباحث من الثمر في باب التعريف هو الإلمام بطرقه التي سار عليها أسلافنا، لأن معرفة تلك الطرق وسير منعرجاتها من أهم ما نستعين به في تذليل ما نحن بسبيله من العقبات في وضع المصطلحات العلمية التي فاض فيضها وتدفقت أنهارها.
نحن لا نشك في أن أولينا كانوا يسيرون في هذه السبيل على سجية لغتهم ويكلفونها فوق طاقتها ولا يقصرون في إمدادها بكل ما يسد حاجتها ويشبع نهمتها، حتى أوصلوها إلى ما أوصلوها إليه من البسطة في المادة والنصاعة في البيان، فوعت عنهم ما شاءوا أن يوعوها من علم وأدب ولم تضق ذرعا بحمل ما حملوها من معقول ومنقول ومحسوس وغير محسوس، كما لم يبخلوا عليها بكل ما تطلبته منهم من خدمة صادقة وتغذية صالحة.
فهل يشك متأدب اليوم بأن اللغة بعد مجيء القرآن الكريم والنهضة الإسلامية غيرها قبلهما، بل هي في العصر العباسي غيرها في صدر الإسلام؟ فإذا قارنت بين لغة العلوم اللسانية والشرعية والكونية ولغة عرب الجاهلية تجد البون بعيدا والمسافة قصية، وهل يرتاب مرتاب في أن لغة الغزالي والرازي وابن رشد في تآليفهم تختلف عن لغة امرئ القيس والنابغة وزهير، وأن لغة هؤلاء لو لم يتعهدها أهل المعرفة بالخدمة والتوسع والصقل والتهذيب لضاقت ذرعا بتلك العلوم الكثيرة والمعارف الغزيرة؟
أما نحن فيجب علينا ونحن في عصر يتدفق بالمعارف ألا نقف موقف الجبان المتهيب، وما علينا إلا أن نشق لنا طريقا لاحبا من بين هذه العقاب المنيعة، ونتخذ من أعمال أولينا منارا نأتم به في عملنا ونستنير به في هذه السبيل، ولهذا كان من واجب أبناء العربية لهذا العهد أن يقتلوا هذه الناحية بحثا ليعرفوا ما يأتون وما يذرون في تمهيد طريق الحياة للغتهم هذه في هذا العصر الذي تطورت فيه الأفكار تطورا هائلا، وصار من البعيد أن تقوم قائمة للغة إلا إذا مشت مع أفكار بنيها كتفا لكتف. وسننشر في آخر هذه المحاضرة نماذج من طرق التعريب التي سلكها الأولون، وعلى الباحث أن يرجع إلى ما أفرده العلماء من التآليف المهمة في هذا الباب الواسع ...
وذهب أناس إلى أن ضبط الكلمات ومعرفة معانيها وضروب اشتقاقها وكيفية استعمالها يغني عن معرفة أن هذه الكلمة أصل في اللغة أو مستعارة، ولا سيما بعد أن نحكم بأن اللفظ المستعار لا يلبث أن يأخذ مكانه من اللغة المستعيرة ويكون له ما للأصيل وعليه ما عليه، فأي فائدة تعود علينا من البحث عن أصله والرجع إلى سنخه؟ وهل هذا إلا ضرب من ضروب العبث ولون من ألوان اللهو بالباطل؟ وذهب آخرون إلى أن هذه المباحث جمة الفوائد كثيرة الثمر، وهي أكبر معين في دراسة تاريخ اللغة وفلسفتها وأقوى نصير في معرفة أسرار نمائها وعوامل بقائها إلى غير ذلك من الفوائد التاريخية واللغوية. (6-1) بماذا يعرف المعرب؟
الأصل في كل كلمة تستعملها العرب أن تكون عربية النجار إلى أن يقوم الدليل القاطع على أنها معربة، ولا ينبغي الحكم عليها بالتعريب بمجرد موافقتها أو مقارنتها كلمة تستعمل بمعناها في اللغة العجمية، إذ قد تكون الكلمة في العربية أصلا وقد نقلها العجم إلى لغتهم مثل لفظة «الجمل» فإنها أصل في العربية وقد نقلها كثير من الشعوب إلى لغاتهم، كما قد تكون الكلمة أصلا في أكثر من لغة لأنها موروثة من لغة قديمة اندثرت بعد أن ولدت عدة لغات، مثال ذلك كلمة «أرض» المستعملة في العربية والإنجليزية وغيرهما، فإن الأرض معمورة بالأمم منذ وجدت الأمم فلا يعقل أن أمة من الأمم بقيت لا تعرف للأرض اسما إلى أن سمعته من أمة أخرى فاستعارته منها هذا أمر تحيله العادة.
وهذا الباب من أضيق الأبواب وأغمضها، ولا يمكن التوصل إليه إلا بعد اجتياز أوعر المسالك وأصعبها، ومن ثم نجد أقواما خاضوا في هذه المباحث على غير هدى فضلوا سواء السبيل فتراهم حيرى كأنهم يدورون في حلقة مفرغة، فبينما تراهم ينسبون كلمات هي من العربية في الصميم إلى نجار عجمي إذ تراهم يلصقون بالعربية كلمات هي من صميم العجمية، وإذا طالبتهم بالدليل سلكوا بك بنيات الطريق وبعد الشدة والعناء رجعت صفر اليدين ورضيت من الغنيمة بالإياب. وقد وضع الأقدمون في هذه السبيل بعض الصوى ليهتدي بها السالك، وهي على ضآلتها لا تخلو من فائدة، قالوا تعرف عجمية الاسم بوجوه:
أحدها:
النقل، بأن ينقل ذلك أحد الأعلام.
الثاني:
نامعلوم صفحہ