تاریخ علوم عند عرب
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
اصناف
6
التي هي حاضرة عند البيروني، فكانت هوامش لكي يكتمل التشكيل العلمي للعقلية، وروافد تغذيه وتصقله، لا سيما وأن الإطار الثقافي للعصر يفرضها ويستلزمها لكي يكون العالم عالما بحق، والفلسفة بالذات دورها خطير في تعميق العقلية العلمية وفي كل عصر.
وإذ اكتسب البيروني السمة العلمية إلى هذا الحد، فسبيلنا الآن إلى رحلة في عالمه، لنرى هل كان منهجيا وعقلانيا بنفس القدر؟ وإذا أسفرت محصلة بحثنا عن الإيجاب، يغدو من نافلة القول التساؤل عما إذا كانت العقلانية العلمية المنهجية بضاعة غربية، علينا استيرادها وتدجينها، أو ما إذا كانت فلسفة العلم - من ناحية أخرى - في بحثها لهذه المفاهيم ملتزمة فقط بالمعطى العلمي الراهن، وأصوله التي هي أولا وأخيرا غربية.
ثانيا: معالم شخصية علمية
وإن أبا الريحان البيروني لرجل تحنى الهام إجلالا وتكرمة له، لخصلتين دريتين تحققتا فيه بوصفه عالما. الأولى: هي عشقه النزيه للعلم، فقط من أجل العلم، حتى إنه يرفض عطايا السلاطين التي قد تصل إلى حد حمل فيل من الفضة - حسب واقعة يخبرنا بها ياقوت الحموي - إذا كانت هذه العطية مكافأة على إنجاز علمي توصل إليه، معتذرا بأنه «يخدم العلم للعلم لا للمال»
7
والخصلة الثانية هي مدى هذا العشق النزيه للعلم، حتى إن واحدا من رفاقه في الدرس والبحث - ويدعى الولوالجي - قد عاده وهو على فراش الموت، فما كان من البيروني إلا أن غالب حشرجات المنية، وسأله عن إحدى المسائل الرياضية، فقاطعه الصديق مشفقا: أفي تلك الحالة؟ فرد عليه البيروني بقول لعله من أنفذ ما قيل تبتلا إلى رحاب العلم، ألا وهو: «يا هذا، أن أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة خير من أن أخليها وأنا جاهل بها.»
8
فلما تناقش معه الصديق، واطمأن إلى حسمه لتلك المسألة، انصرف من عنده. غير أن الصراخ سبقه للطريق!
على أن «العلم للعلم» عند البيروني قيمة منهجية خالصة، ولا تعني بحال توجها ميتافيزيقيا مجردا، وكأنه مواصل لمثل الإغريق التي مجدت التأمل العقلي الخالص فقط من أجل المتعة العقلية اللائقة بالسادة، بل تعنى فقط أن قيمة العلم لا تحددها أبدا المنفعة العملية؛ لأن المنفعة العملية عنده لا تحدد قيمة أي شيء، فهو يقول في «تحديد نهايات الأماكن»: «الفضيلة الذاتية للشيء غير المنفعة العارضة لأجله.» وعقلية البيروني ذات المنحنى العلمي الواقعي لا تعي ولا تقبل العلم للعلم أو الفن للفن كدوائر مغلقة. العلم عنده ينصب في رافد الحضارة العربية ويخدم القيم الإسلامية واحتياجات المجتمع الإسلامي، وقيم العلم عند البيروني ودوافعه وبواعثه يمكن أن نجدها في تعاليم القرآن الكريم التي تحث على التأمل في السموات والأرض التي خلقها الله بالحق،
نامعلوم صفحہ