تاریخ علوم عند عرب
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
اصناف
ولأن العبقرية الناصعة ذات الإنجاز العلمي المحسوب تفرض نفسها على الجميع، مهما كانت الميول والأهواء، نجد جابرا في النهاية رجلا حق عليه القول: «شهد له الأعداء قبل الأصدقاء»، فهذا برتيلو نفسه لا سواه يضطر اضطرارا إلى أن يقول قولته: «لجابر بن حيان في علم الكيمياء، ما لأرسطو من قبله في علم المنطق.» فكما أن أرسطو هو مؤسس علم المنطق، فإن جابرا هو مؤسس علم الكيمياء كنقطة تحول في تراث الإنسانية العلمي. •••
إذن يمثل جابر بن حيان منعطفا جذريا في تاريخ علم الكيمياء، وفي الآن نفسه منعطفا جذريا في تاريخ الحضارة الإسلامية من حيث إنه في طليعة فئة الطبائعيين الذين تكرسوا للاهتمام بالطبيعة، وهي الفئة التي نضجت واكتملت لتحمل عبء تاريخ العلوم عند العرب. هذا المنعطف الجذري لئن تأدى إلى طرق وشعاب من بعده، فإنه بالمثل آت عن طرق وشعاب قبله. فلا يدهشنا تداخل الأبعاد المعرفية التي ترسمت معها كيمياء جابر، ما بين شعاب إسلامية وواقعية تجريبية وحرانية وزرادشتية وسكندرية يونانية عقلانية منطقية وهرمسية غنوصية.
ونظرة واحدة إلى تصنيف جابر للعلوم، كما هو معروض في «كتاب الحدود»
13
يوضح كيف تداخلت هذه الأبعاد جميعها وتضاربت، فيبتعد عن التصنيف الأرسطي رغم تأثره به، ويقسم العلوم متأثرا بالمد الإسلامي إلى علوم دين وعلوم دنيا، علم الدين ينقسم إلى شرعي هو علم الظاهر، وعلم الباطن، وعقلي ينقسم إلى علم الحروف وعلم المعاني. علم الحروف ينقسم بدوره إلى طبيعي وروحاني، وعلم المعاني ينقسم إلى العلم الفلسفي والعلم الإلهي. الفلسفي يضم علوم الطبيعة والنجوم والحساب والهندسة، وإذا لاحظنا الأثر الإغريقي هنا، نجد الأثر الهرمسي الغنوصي يتجسد في علم الباطن الروحاني الذي ينقسم إلى علم نوراني وعلم ظلماني. أما علوم الدنيا - وهي ما تهمنا الآن، والتي جعلت جابرا المنعطف الذي يستوقفنا - فتنقسم إلى شريف ووضيع. الشريف: هو علم الصنعة؛ أي الكيمياء بفروعه المختلفة، والوضيع: هو أقسام العلوم أو الصنائع الأخرى الكثيرة الخادمة للكيمياء.
14
إن تشجيرا يوضح هذا التقسيم أو التصنيف للعلوم، يمكنه أن يوضح أيضا مدى تعدد الأبعاد المعرفية عند جابر، ومدى تقابلها وتشابكها. •••
ولنبدأ بالبعد الجوهر والعمدة والعماد، الذي تناط به منزلة جابر في تاريخ الكيمياء؛ أي: المنهج التجريبي، والحق أن هذا البعد متبلور متألق إلى أقصى الحدود، حتى إنه يستعمل مصطلحي الاستقراء والتجربة بمعناهما ومبناهما المنصوص عليه في المنهج العلمي الحديث فيقول: «استقراء النظائر واستشهادها للأمر المطلوب.»
15
ويقول للحث على دراسة كتبه: «لا عمل إلا بعلم قبله يتقدمه، فاعرف ذلك واعمل عليه، وإياك وإهماله، فليس يمكن كل يوم العمل والتجربة لترى الرشد فيما نقوله لك، ولكن اتعب أولا تعبا واحدا واجمع وانظر واعلم ثم اعمل.»
نامعلوم صفحہ