تاریخ علم ادب
تاريخ علم الأدب: عند الإفرنج والعرب وفكتور هوكو
اصناف
فإذا جرى التوقيع بالروايات الدراماتيقية على آلات الطرب، ولحن فيها على طريق الصناعة الموسيقية سميت «أوبرة»؛ ولأجلها بنيت المراسح الكبيرة التي يقال لها أوبرة؛ كالأوبرة الخديوية في القاهرة، والمرسح الذي بني في الأستانة، ثم احترق ولم يجدد بناؤه، ويقال لأوبرة باريس أكاديمية الموسيقى؛ لأنها شعبة من شعب أكاديمية الصنائع النفيسة التي هي في عداد الأكاديميات الخمس الشهيرة في باريس، ومثال ذلك أوبرة فوست التي صنف قصتها الدراماتيقة الأديب الألماني كوته، ثم جاء الملحن الفرنساوي كونو ووفق ترجمة كلامها على صناعة الألحان، وكذا رواية عائدة (آيده) التي وضعها على صناعة الألحان الملحن الشهير الطلياني فردي، ثم نظمها بالفرنساوية أديبان من أدباء الفرنساويين، وأول ما مثلت هذه الرواية الأخيرة في الأوبرة الخديوية بالقاهرة سنة 1871، ثم مثلت في باريس على المرسح الطلياني سنة 1876، وتمثل اليوم على جميع المراسح الفرنساوية في العاصمة والإيالات، وفي أكثر المدن الأوروبية ولعل هذه الرواية هي التي ترجمت للعربية باسم «عائدة».
فالأوبرة هي تأليف دراماتيقي اجتمع فيه الشعر والموسيقى؛ ولذا فهي تشتمل على أوزان العروض وأنغام المزامير وأقاويل الشعر؛ أي ما فيه من التشبيه والتخييل، فإن دخل في الأوبرة مع الكلام المنظوم كلام منثور أيضا سميت أوبرة «كوميك كرواية كرمن»، وإن لم يكن موضوع الرواية دراما؛ أي فاجعة، بل كان كوميديا مضحكة سميت «بوف» و«بوفون» و«أوبيريت» تصغير أوبرة. واجتهد بعض الأدباء الترك في التأليف بين الشعر والموسيقى في اللسان العثماني، فترجموا رواية كرمن نظما للتركية، وشخصوها مع الأنغام الموسيقية على المراسح المتخذة من الأخشاب في محلة أقسراي، وفي متنزهات ضواحي الأستانة، ومع أن مشروعهم ابتدائي فالتمثيل كان لا بأس به رغما عن حداثة نشأته، فلو حصلت عناية في تنشيط هذا المشروع بقوة المال، وهمة الرجال لنجح ولا شك باللغة التركية، وباللغة العربية أيضا. فإن دوائر البلدية في مدن أوروبا الثانوية فضلا عن العواصم تنفق النفقات الباهظة في كل سنة لإعانة المراسح؛ لأن ما يجمع من أجرة الدخولية لا يكفي لتحسين المراسح إلى الدرجة التي بلغتها مراسح أوروبا، وكان لعلماء العرب وفلاسفتهم المتقدمين اهتمام بعلم الموسيقى، وللفارابي فيه اليد الطولى ومما ألفه كتاب الموسيقى الكبير، ونقل صاحب الأرز في ما نشره من الأزجال والموشحات عبارة عن ابن رشد وردت له في تلخيصه كتاب أرسطوطاليس في الشعر الذي طبعه المستشرق فوستو لازينو في مدينة فلورنسه سنة 1873 قال ابن رشد: «المحاكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة أشياء، من قبل النغم المتفقة ومن قبل الوزن ومن قبل التشبيه نفسه. وهذه قد يوجد كل واحد منها مفردا عند صاحبه مثل وجود النغم في المزامير والوزن في الرقص والمحاكاة في اللفظ، أعني الأقاويل المخيلة الغير الموزونة، وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها مثل ما يوجد عندنا في النوع الذي يسمى الموشحات والأزجال، وهي الأشعار التي استنبطها في هذا اللسان أهل هذه الجزيرة؛ أي الأندلس » ا.ه. ولا شبهة في أن أعاريض الموشحات والأزجال من أنسب العروض لنظم روايات الأوبرة لسهولة التوقيع بها على آلات الطرب بخلاف البحور الستة عشر في العربية، أو البحور الثمانية عشر بالفارسية والتركية، ولا نطيل الكلام في هذا المبحث، فإن أهله أولى بالبحث فيه والتفتيش عن دقائقه وخوافيه ونعود للصدد الذي كنا فيه.
وأما النثر الذي ألفه فيكتور هوكو، فكله من قبيل المرسل وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا، ولا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها، وليس عند الإفرنج سجع، وهذا المنثور على أقسام وفنون شتى منها القصص التي يقال لها «رومان» وهي ما صور فيها مؤلفها غرائب الوقعات، وعجائب الاتفاقات، واستلفت نظر القارئ أو السامع بمفترياته واختلاقاته وتخيلاته البديعة، وسميت هذه القصص رومان أو رومانس باسم اللغة القديمة التي كتب فيها رومان رولان، وأمثالها من القصص والحكايات المنظومة والمنثورة والرومانات على أقسام كثيرة منها الرومان التاريخي والغرامي، أو الإحساسي والروحاني والفني والسياسي إلخ، ومن منثور فيكتور هوكو أيضا التاريخ والسياحة والفلسفة والأقوال والأعمال والرسائل والخطب والسياسات وغير ذلك. (17) نظم فيكتور هوكو
قرض فيكتور هوكو الشعر في أعاريض مختلفة، منه ما هو على وزن البحر الإسكندري المنسوب لأحد الشعراء اليونانيين، أو المدينة الإسكندرية التي زهت فيها العلوم والمعارف والآداب اليونانية على عهد البطالسة. ويتألف عروض البحر الإسكندري من اثني عشر هجاء إذا كانت القافية مذكرة، ومن ثلاثة عشر إذا كانت مؤنثة، ويقسم كل بيت إلى شطرين بوقفة
Césure
تأتي بعد الهجاء السادس المساواة للشطرين، والنظم في هذا البحر صعب يحتاج إلى نفس عال وتلطف كثير ومهارة زائدة، وبه تظهر قوة الشاعر واقتداره على التصرف في الكلام؛ ولذا اختص بالمواضيع الجدية العالية لقصائد الحماسة وروايات الفاجعة. واختاره فيكتور هوكو لنظم روايات الدرام التمثيلية المذكورة في الكتب الخمسة المتقدم بيانها ولنظم غيرها من الأشعار الحماسية والتاريخية، ولكنه غير فيه كثيرا ولم يراع الوقوف على الهجاء السادس بل قسم البيت إلى شطرين غير متساويين، وجوز تكميل معنى البيت الأول بألفاظ من البيت الثاني، مع أن العرب يشترطون أن يكون كل بيت من أبيات الشعر تاما في بابه مستقلا في معناه، ويمكن تشبيه البحر الإسكندري بالبحور العربية الستة عشر، أو البحور الفارسية الثمانية عشر.
ومن شعر فيكتور هوكو ما هو على أوزان متخالفة متألفة من ستة أو ثمانية أو عشرة هجاءات نظمت أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا، وجعل لها أدوارا ولازمات على نسق ما استحدثه الأندلسيون، وبقية شعراء العرب المتأخرين من الموشحات والأزجال، وهي أسهل طريقة وأقرب تناولا من البحر الإسكندري كما أن الموشحات والأزجال العربية أسهل من بقية البحور، ولها عند الإفرنج أسماء بحسب أجناسها مثل أود وبالاد وروندو وإيليجي إلخ، ولها أدوار تسمى قوبله وستروف ولها أيضا لازمات
refrain
إلخ. واقتبس الفرنساويون هذه الأعاريض من شعراء تروبادور تلقوها عن عرب الأندلس، كما أخذوا عنهم علو القوافي ، فإن شعراء الإفرنج على الإطلاق لم يكن لهم معرفة بالقوافي، وإنما كانوا يعتاضون عنها في أشعارهم بما يسمونه «أسونانس»، وهو شبه القرادي والعتابي كما مر ذكره، ومثلنا فيما سبق للقافية بكلمتي «ساج» و«باج»، ولما يسمونه أسونانس بكلمتي «ساج» و«ترم». والإفرنج لا يلتزمون في القصيدة أو المنظومة قافية واحدة أو رويا واحدا كما يفعل العرب، ففيكتور هوكو لم يلتفت كثيرا لأوزان العروض التي نظم فيه من تقدم عليه من الشعراء، بل تساهل جدا في جانب الألفاظ واستحدث من عند نفسه أنواعا جديدة، ووضع هذه القاعدة، وهي «أن الشعر ليس في قوالب المعاني، وإنما هو في المعاني نفسها، فالشعر هو الأمر الباطني لكل شيء في الوجود.»
فهذه القاعدة ليست مجهولة بالتمام عند أدباء العرب، ولعل ابن رشد أشار إليها في العبارة السابقة بقوله عن المحاكاة في اللفظ: «أعني الأقاويل المخيلة الغير الموزونة.» وحكي عن حسان بن ثابت حينما أتاه ابنه عبد الرحمن وهو صبي يبكي، ويقول: لسعني طائر.
نامعلوم صفحہ