تاریخ علم ادب
تاريخ علم الأدب: عند الإفرنج والعرب وفكتور هوكو
اصناف
فإيضاحا لمجمل هذا القول رأينا أن نبحث في منشأ الأدب الإفرنجي، وفي دخول العرب بلاد الإفرنج. •••
كانت فرنسا في قديم الزمان تسمى أرض الغول، وكان يسكنها قبائل الغولوا والسلت (القلت) من البربر المتوحشين، فلما استبحر عمران الرومانيين في رومة وقويت شوكتهم ساقوا العسكر من إيطاليا على سواحل فرنسا الجنوبية، واستولوا على إسبانيا لجياده الهواء والأرض فيها وشكلوا في أطراف مرسيليا، ومصب نهر الرون ولاية سموها بروفانس، ومعناها الأيالة وجعلوا عاصمتها مدينة إكس، وهي في شمالي مرسيليا، وبنوا على الحدود الإسبانية مدينة نربون بالقرب من مستنقع على شاطئ البحر، واتخذوها محطا لرحالهم في سفرهم إلى إسبانيا وإلى الحمامات المعدنية التي في جبال البيرينة.
وقبل الميلاد بخمسين سنة تعين يوليوس قيصر واليا على بروفانس، فوسع حدود الولاية وفتح أرض الغول، وألحقها بأملاك الدولة الرومانية فصارت الولاة ترسل إليها من رومة، ومعهم العسكر والمأمورون؛ فنظموا إدارتها وفتحوا طرقها، وعمروا فيها القلاع والحصون والمدن، ونشروا فيها شيئا من حضارتهم ومن لغة عوامهم وهي اللغة اللاتينية الدارجة، وأدخل المبشرون بالمسيحية الدين فيها فصارت اللاتينية لغة الدين والدولة، واستمرت بلاد الغول في أيدي الرومانيين نحو أربعمائة سنة، وحينما انقسمت دولة الرومان إلى شرقية مقرها القسطنطينية، وإلى غربية مقرها رومة وذلك في سنة 395م؛ كانت فرنسا في قسمة الغربية ضرورة غير أن تسبب الولاة، وضعف قوتهم العسكرية أباح لقبائل الجرمان التجاوز على أرض الغول والاستيطان فيها، كما استوطن من قبلهم قبائل القوط، والفاندال أرض إسبانيا وسموا الأندلس باسمهم، فقالوا: فاندالوسيا، أو أندالوسيا. ففي أوائل القرن الخامس للميلاد نزلت قبائل الويزي قوط في جنوب نهر لوار المار في وسط فرنسا، والمنصب في المحيط بالقرب من مدينة نانت، ونزلت قبائل البورغوند في وادي الرون وجبال جورا، ونزلت قبائل الفرنك في شمالي أرض الغول؛ أي في بلاد البلجيك. ونزلت الألمان على ضفاف الرين العليا، واستمرت حكومة الرومانيين محصورة وسط بلاد الغول على ضفاف نهر السين، غير أن القبائل النازلة سالموا الحاكم الروماني وقاتلوا تحت قيادته قبائل الهون الآسيوية، وكانت قد هجمت على غربي أوروبا وخربت البلاد وأراقت الدماء، فهزموا رئيسهم أتيلا سنة 450م أمام مدينة شالون التي على نهر مارن، فلمت قبائل الهون شعثها وجمعت جموعها وفاضت على الممالك الرومانية في إيطاليا كالسيل الجارف، واستولوا على رومة سنة 476م وأبادوا ملكها، فتفردت قياصرة الروم في القسطنطينية بالحكم على الرومانيين، واستقلت القبائل النازلة في أرض الغول، وكان أشجعهم وأقدرهم قبائل الفرنك فاستبدوا بالأمر وطرد رئيسهم قلوفيس الوالي الروماني، وقام مقامه في حكومة الغول، وتزوج بمسيحية من البورغوند فنصرته هو وقومه، ونصره الرهبان على قبائل البورغوند، والويزي قوط؛ فحكم عليهم وأسس سنة 481م الدولة التي سميت باسم جده «ميروفة»، فقيل لها: «ميروفينجيان» أي آل ميروفة، وهي أول دولة من الإفرنج ودام حكمها ثلاثة قرون. وحيث كان ملوك الإفرنج يقسمون الملك بين أولادهم انقسمت دولة الميروفينجيان إلى أقسام متفرقة، فضعفت قوتها وتضعضعت وأصبحت، أيام دخول العرب إليها، منقسمة إلى أربع ممالك يملكها ملوك من آل ميروفة: (1)
أوستراسيا؛ أي المملكة الشرقية، وهي عبارة عن الألزاس، واللورين وما جاورهما من ضفاف نهر الرين، ولم يكن لملكها من آل ميروفة نفوذ فيها، بل كانت الكلمة فيها لأعيانها وكبيرهم دوق أوستراسيا ومقرهم مدينة مج. (2)
نوستريا؛ أي المملكة الغربية، وهي على ضفاف السين إلى أورليان جنوبا وعاصمتها باريس، وكذا أورليان والمالك عليها من سلالة ميروفنجيان أصحاب الملك الشرعي على عموم فرنسا. (3)
بورغونيا، وهي على ضفاف الرون والسون، وعاصمتها ديجون. (4)
أكيتانيا، وهي ما بين جبال البيرينة ونهر غارون المنصب في المحيط بعد مروره بطولوز وبوردو، وكانت إذا ذاك تحت حكم الدوق أود الملقب بدوق أكيتانيا، وهو من نسل ميروفه ومقره طولوز، وتسمى الأيالة المحيطة بها لانغيدوق وما في جنوبها سبتيمانيا، كما يسمى القسم الذي على ساحل الأوقيانوس المحيط غسكونيا، وأطلق عليه في كتب العرب أرض غشكونية.
ففي سنة 687م تداخل دوق أوستراسيا المسمى ببين دريسنال في شئون مملكة نوستريا لغفلة ملوكها من آل ميروفة، وإهمالهم مصالح الملك حتى أطلق عليهم اسم الملوك البطالين لقعودهم وتخنثهم، وجعل ببين نفسه مشيرا للملك في باريس وأميرا للأمراء في المملكة على مثال ما حدث في عهد الخلفاء العباسيين، ثم انضمت إليهم بورغونيا فصار لدوق أوستراسيا نفوذ في أكثر المملكة، وهيأ الأمر لابنه شارل مارتل صاحب الوقائع مع العرب، ولحفيده من بعده، فحقد على ببين الأمراء من آل ميروفة لا سيما أود دوق أكيتانيا لتفوقهم عليه في الأصالة وشرف النسب.
وقبل دخول الرومانيين أرض الغول كان لسكانها من قبائل الغولوا، والسلت النازلين أرض بريطانية ألسن مخصوصة همجية، فلما انتشر بينهم عسكر الرومانيين، ومأموروهم ومن تبعهم من التجار والسوقة صاروا يتكلمون لغة عوام اللاتين وسوقتهم؛ أي اللاتينية الدارجة ويلوكون بها ألسنتهم كما يلوك الزنجي لسانه بالعربية أو السنغالي بالفرنساوية، فلما استولت قبائل الفرنك على أرض الغول، وطردوا منها والي الرومان اقتبسوا لسان أهلها، وما لديهم من الحضارة الرومانية وضموا إلى هذه اللاتينية المحرفة كلماتهم الفرانكية البربرية، فظهر من هذا الاختلاط لغة سميت «رومان»، وهي لاتينية سوقية تحرفت بلسان الغولوا، والسلت ثم امتزجت بلسان الفرانك، وحيث كان اللسان والدولة تابعين لقانون واحد في الترقي والانحطاط والانقسام انقسمت لغة رومان بانقسام الدولة إلى قسمين؛ أحدهما كان يتكلم به أهل الجنوب، ويسمى «أوق»، ومنه لسان بروفانسال المنسوب لأيالة بروفانس وهو أقرب للسان الطليان والإسبانيول منه إلى اللسان الفرنساوي الجديد، والثاني كان يتكلم به أهل الشمال ويسمى «أويل»، ثم انقسمت لغة أهل الشمال إلى لهجات متعددة غلبت على الجميع لهجة جزيرة فرنسا، وهي الأيالة التي عاصمتها باريس، وتعممت في الولايات الشمالية حتى صارت اللغة الفرنساوية الحالية، ثم انتشرت في الأيالات الجنوبية حينما استولى عليها سنة 987م هوغ قابت مؤسس الدولة الثالثة من دول الإفرنج في فرنسا.
ولم تزل الحكومة الفرنساوية تسعى في نشرها وتعميمها وإصلاحها إلى يومنا هذا، ومع ما تصرفه من العناية في تعليمها لم يزل في أهل القرى من لا يعرف منها الكلمة الواحدة، ونزلت ذات يوم قرية من قرى الفرنساويين في جبال البيرينة، فلم أستطع التفاهم مع أهلها حتى جاءني رجل من القرية المجاورة، وله تردد على الأمصار الفرنساوية ومدنها العامرة.
نامعلوم صفحہ