القسم الأول تأريخ بيهق
مقدمة المؤلف
صفحہ 87
بسم الله الرحمن الرحيم [1] الحمد لله الذي دلت الدلائل الواضحة، والبراهين الراجحة، حقا وصدقا على عزته ووحدانيته، وفتح عارفوه بمفاتيح العرفان أبواب الألباب، ولم يحرم الشائم لبوارق لطائفه من ظلال نيل الآمال، والتحليق بجناح هزة الإيمان وعزته في آفاق حسن الاتفاق، وسلك العارفون به طرائق الجد والاجتهاد طلبا لغايات رضوانه.
ومن تعرض لنفحات كرمه، يسمعه هاتف ألطافه في كل ساعة، بل في كل لحظة، نداء البشارات، ويقر عين سره المكنون وأبصار بصيرته ببرود «1» الهداية وكحل التوفيق. الذي لا تبلغ مقاود اللسان ومقالد البيان غاية بريق درر الشكر من أصداف ألطافه، وتعجز الأذواق عن اجتناء بواكير تفاصيل حكمته وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
«2» .
والصلوات والتحيات الوافرة لحضرة سيد الأولين والآخرين محمد المصطفى، الذي زين ساعد السعادة الكبرى بأساور مفاخر متابعة شريعته، وعجزت الأقلام عن التقرير، والأوهام عن التوهم والتصوير، لغايات فضائله، وهي لن تبلغ غايتها [2] :
وما حملت من ناقة فوق ظهرها ... أبر وأوفى ذمة من محمد «3»
تبسم به وجه الزمان، وقرت عين الشريعة بحلل رسالته، وفتحت أبواب أرباب
صفحہ 89
الألباب بمفاتيح الأمن والأمان، فالحق زاه والباطل حيران. والتحيات التي آياتها في سور العقائد الطاهرة مذكورة، ورقومها في جرائد البقاء مسطورة:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري «1»
وعلى آله وأولاده الطاهرين المنتجبين الذين قدروا مواهب الخالق جلت عظمته، وسعدت قلوبهم بمتابعة سيد ولد آدم:
تحيات كأنفاس الغوالي ... تمازج عرفها ريح الشمال
وبعد، فيقول أبو الحسن علي بن الإمام شمس الإسلام أبي القاسم زيد بن شيخ الإسلام جمال القضاة والخطباء أبي سليمان الأمير محمد بن الإمام المفتي فخر القضاة أبي علي الحسين بن القاضي الإمام إمام الآفاق أبي سليمان فندق، بن الإمام أيوب بن الإمام الحسن بن عبد الرحمن بن القاضي أحمد بن عبيد الله بن عمر بن الحسن بن عثمان بن أيوب بن خزيمة بن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين صاحب رسول الله صلى الله عليه ، بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن عثمان ابن عامر بن خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وهو آدم الثاني عليهما السلام:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع «2»
[3] كان أهل العلم قبل هذا مستظهرين بوسائل العلم وذرائعه، وكانوا يؤدون
صفحہ 90
شكر لذة طلب العلم على قدر الاستطاعة والإمكان، وينشدون بإخلاص وابتهال في الأوقات المباركة ثبات أقدامهم على جادة السنة والشريعة وبعون عناية سلاطين ذلك الزمان بلغوا أصول السعادة، محترزين من المطامع الدنية، والمطاعم الوبية:
وكان الصديق يزور الصديق ... لكسب المعالي ونشر العلوم
فصار الصديق يزور الصديق ... لشكوى الزمان وبث الهموم «1»
أما في هذه الأزمان غير المؤاتية والعصر الغدار، والزمن الملآن بالمحن والفتن، حيث الآمال والأماني على شفا الاضمحلال، وجدة العلم لدى الناس منسوخة، وعارفها كالعنقاء والكبريت الأحمر «2» ، والكل يشكو جور الزمان:
زماننا ذا زمان سوء ... لا خير فيه ولا صلاحا
فكلنا منه في عناء ... طوبى لمن مات فاستراحا «3»
صفحہ 91
عندها دعاني داع على حين غرة لإحياء العلوم على قدر المستطاع، والتجديد في كل فن منوط بمقدار السعي «وجهد المقل غير قليل» «1» .
وقد عزت علوم في بلاد خراسان هذه الأيام، واندرست آثارها، منها: علم الحديث النبوي، حتى إنه لو كتب أحدهم عشرة أسانيد: خمسة منها صحاح، وخمسة خطأ، فقلما يوجد الشيخ الذي يعرف الصحيح والسقيم من تلك الأسانيد، أو المحدث العارف لأستاذه الذي يروي عنه، وما هي مفرداته، وكم هو عدد الطلاب والمستفيدين الذين نقلوا عنه، ومن كان منهم العدل أو المجروح. وإنها لمصيبة عظمى وبلاء كبير أن لا يكون في أمة محمد رسول الله فيما يزيد على مئة فرسخ عالمان اثنان ناقدان لأسانيد وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم [4] :
مضى العلماء وانقرضوا ... وها أنا للردى غرض «2»
وأما العلم الآخر، فهو علم الأنساب، وهو علم شريف، إذ لكل أمة علم خاص بها: فللروم علم الطب، ولليونانيين علوم الحكمة وأصول الطب وميزان المنطق التي ارتوت مراعي المساعي ومسارح مناجح العالمين بقطرها، وانجلت بمجاهدات ومعالجات الأطباء، غمرات الأسقام، وعبرات الآلام، ووصلت القلوب بعلم ميزان المنطق من الحيرة والأقاويل إلى مرتبة الاطمئنان، وللهند الحساب والتنجيم، وللفرس علوم آداب النفس والمعرفة، وهو علم الأخلاق، وللترك علم الفروسية، وآداب السلاح، ولأهل الصين الصنائع والحرف العجيبة. قال تعالى كل حزب بما لديهم فرحون
«3» ، وكل ذات ذيل تختال.
صفحہ 92
وللعرب الذين شرفوا على أصناف الخلائق بسبب صاحب شريعتنا محمد المصطفى صلوات الله عليه، علوم النسب وعلوم الأمثال، ومعلوم أن العلم بهذين العلمين عزيز الوجود في يومنا هذا.
وباستثناء العرب، لا توجد أمة من الروم والترك والهند تعرف أسماء أجدادها، ولهذا السبب ظلت أنساب العرب وأولادهم مصونة محروسة من الشوائب، وجمعوا بين شرف الآداب وكرم الأنساب.
وما تستوي أحساب قوم توورثت ... قديما وأحساب نبتن مع البقل «1»
والعلم الآخر هو علم التاريخ، حيث انقرض عهد المؤرخين، واستقرت همم بقايا الأمم، في مهاوي القصور والنقصان، والكل يعرف لذة الجمع والمنع، وهي لذة ضئيلة إذا ما قيست إلى اللذة الكبرى، وهي كنسبة حليب الأم إلى الأطعمة اللذيذة لدى الطفل الذي ما إن يمر عليه حولان كاملان، ويدرك لذات الأطعمة والأشربة حتى لا يعير انتباها لحليب المرضع:
ومن قصد البحر استقل السواقيا «2»
***
وما متعة الأعمى من شعاع شمس الصيف؟
***
[5]
إذا عدم المرء الكمال فما له ... حياة بها يحيا ومال به يبقى
بل إن نسيم الشمال، ودبيب شمول الأوزان والألحان، في النفوس والأبدان، ليس له ذلك التأثير العجيب الذي لسوانح الفكر في مسارح العلوم والحكم، كما
صفحہ 93
قيل: لذة العرفان تنسي لذة الأبدان، وقيل: أين أبناء الملوك عن لذة العلم؟
تعلم فإن المرء يولد جاهلا ... وليس أخو علم كمن هو جاهل «1»
لأن العلم أنس النواظر والأسماع، وصيقل الخواطر والطباع، وغصون شجرة الإنسانية تعطي بتحصيل العلم ثمرات السعادة، والعلم في الدارين هو المرعى المونق والغدير المغدق. ومن كمال العلم، أن العلماء في المرتبة الثانية بعد الملائكة، قال تعالى والملائكة وأولوا العلم
«2» ، وكانت شهادتهم بعد شهادة الحق تعالى، قال تعالى قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب
«3» .
* العلم هو مفتاح كنز الوجود ... وهو عصارة المقصود
ولإن العلم نافع في الدارين ... ترى من سيستغني عنه؟
حين يسهر العالم بالبحث ... يغط الجهلة في نوم عميق
من الجهل تأتي المحن والمظالم ... وليس أحد سعيدا بالجهل
إن سير العلم في الآفاق ... أظهر كنز الفضل ومكارم الأخلاق
والمصنف، بحكم صنوف صروف الدهر، والضعف والشيخوخة، والزمان غير المؤاتي- وهو ما لا علاج له- وقلة المال وكثرة العيال، واستغناء الخلق عن الإفادة والاستفادة:
بغير بضاعة نالوا مناهم ... فلم يسعون في طلب البضاعة؟
الذي وقفت موانع وحواجز في طريقه:
صفحہ 94
[6]
تدافعني الأيام عما أرومه ... كما دفع الدين الغريم المماطل «1»
***
وأخو الدراية والنباهة متعب ... والعيش عيش الجاهل المجهول «2»
يرى بأن شكره للمواهب الإلهية منوط بما يستحصل من العلوم بنشرها وتدوينها وتصنيفها، وأن لا يدع للعتاب والملامة إليه سبيلا:
كل امرئ أسدى إليك صنيعة ... من علمه فكأنها من ماله «3»
ومن اللائق بعد كل تلك الأيام والأعوام المتتالية، مفرقة الأحباب، ما حقة صفات المعروف والكرم والعلوم والآداب، أن تبسم فم المرام، وراجت بضاعة العلم بعد كسادها، وظهر الطمع في فتح باب العلوم بمفاتيح الهمة القعساء:
كل نهر فيه ماء قد جرى ... فإليه الماء يوما سيعود
وهذا المصنف هو دال على الخير والعلم، لأنه بتحمل السابقين للصعاب، بلغ اللاحقون المرتبة العليا:
فلولا الشمس ما لمع الثريا ... ولولا الأصل ما زكت الفروع
ولهذا السبب ثبتت أفضال المتقدم على المتأخر:
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... إذا لشفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها، فقلت: الفضل للمتقدم «5»
وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه
صفحہ 95
وعلم بلا إفادة كشجرة بلا ثمرة:
إذا الغصن لم يثمر ولو كان شعبة ... من المثمرات، اعتده الناس في الحطب
****
ماذا تصنع بسفينة بلا نوح ... وماذا يجديك جسد بلا روح
إن نفع العلم كضوء المصباح ... وثمرة العلم كثمرة البستان
والعطاء بلا ذلة هو من العلماء ... والعدل الخالص من الحكماء
[7]
ولو كان الجهلة يملكون مال قارون ... فهم بلا شك كاللفيف المقرون
لا جعل الله تعالى- بمنه ولطفه- القول والكتابة من أسباب الندامة في يوم القيامة:
وفي التاريخ إن أبصرت رشدا ... فوائد من علوم مستعارة
****
علم التاريخ هو كنز الأخبار ... وهو كنسيم الشمال طيار
كل من يركب في مركبه ... يصبح كل علم من علومه ألفا
فلو كان في هذا الزمان شكلا ... فهو في السماء معنى
رأى الدنيا والعصور ... فغدا حمالا ولم يحمل حملا
***
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وسيأتي تفصيل ذلك مرتبا إن شاء الله تعالى.
التواريخ خزائن أسرار الأمور، وفيها العبر والمواعظ والنصائح؛ ونقدها منقوش بسكة التقدير الإلهي. تصون الناس من حدة مضارب النوائب؛ شهودها عدول، مصونون من الجروح، ودلائلها وأماراتها أحلى من الشهد، وأشد ضياء من الشهاب؛ مدار أفلاكها على قطب الرواية، قال رسول الله صلى الله عليه: العلم علمان: «علم الأديان، وعلم الأبدان» ، وقال قوم إن هذا أثر، ورووه عن المصطفى
صفحہ 96
عليه السلام، ونقلوه عن الإمام المطلبي الشافعي «1» .
وعلم التواريخ مركب من علم الأديان وعلم الأبدان؛ أما المتعلق بالدين، فهو معرفة بدء خلق آدم عليه السلام، وأخبار الماضين من الأنبياء والرسل عليهم السلام، والخلفاء والملوك، وما في كتب الأنبياء عليهم السلام، وأحوال الأئمة والمقدمين في الأديان ومقام كل واحد منهم، وتفاصيل الملل والنحل والمذاهب وواضعيها، وما وقع من الأخبار في عهد الرسول عليه السلام، من المخالفين والموافقين؛ [8] ومعجزات الأنبياء عليهم السلام، وأمثال ذلك.
وأما المتعلق بالأبدان، فلأنه لم تسنح سانحة من خير أو شر إلا كان قد وقع مثلها أو قريب منها في العهد الماضي، وكما أن الأطباء ينتفعون من الأمراض التي كانت قد وقعت للماضين، ووضع لها كبار الأطباء الدواء، فيقتدون بهم ويتخذونهم أئمة:
يشقى أناس ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواما بأقوام «2»
فكذا حال الوقائع الحادثة، حيث تعلم أسباب التوفيق فيما مضى، ويحترز مما احترز منه، وتتوقى النازلة بنفس الطريقة التي جرى التوقي منها في الماضي، وتدفع بما دفعت به، فمن النادر أن تقع واقعة ولم يكن قد وقع مثلها أو قريب منها:
وأعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي «3»
صفحہ 97
كفى زاجرا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي «1»
فائدة أخرى: إن وسائل المعرفة لدى الإنسان هي: العقل والحس والمشاهدة، والمسموعات هي من أبواب المحسوسات، ولا يمكن معرفة أحوال العالم عن طريق العقل؛ كما لا يمكن لإنسان ما أن يبقى حيا مدى الدهر ليطلع على أحوال وأخبار العالمين.
إذن فالطريق لمعرفة أحوال وأخبار البشر، والطريق لمعرفة الأقوال والأخبار والآثار هو طريق التأمل في التواريخ، وفوائده مستنبطة بالاستماع.
فائدة أخرى: علم التواريخ علم لذيذ ومستساغ تغلب فيه الهشاشة والبشاشة على الملل والسأم؛ ولا تعجز خطوات خطراته عن نيل المقصود [9] ، ولا يقصر البنان واللسان عن تحصيله وتفصيله، ولا ينقص من قدره الانقطاع عن مشاهدة المحسوسات من وقائعه، ويعبق نسيم عرفه من بساتين أنس الصدور وحظائر قدس القلوب، والإنسان مجبول على حب الإحاطة بالعلم وأحوال العالم الكائنة والموجودات، وحال حاسة السمع عند استماعها الأخبار والحكايات، كحال العين في نظرها للوجوه الجميلة؛ فكما أن كمال العين هو بالنظر إلى الوجوه الجميلة، فإن كمال السمع بالاستماع إلى التواريخ والأخبار، وليس في حواس الإنسان أشرف من حاستي السمع والبصر، وقيل في الأمثال: «لا تشبع عين من نظر، ومسمع من خبر، وأرض من مطر» «2» .
صفحہ 98
والإخبار والاستخبار من غرائز بني الإنسان، ألا ترون الناس لا يقر لهم قرار عند وقوع حادث ما، حتى يسمعوا ويسمعوا أخباره- حتى لو لم يكن يعنيهم- ويشغلوا به أنفاسهم المعدودة، وحواسهم المحدودة، ويستبينوا مختلفات أنواع الأخبار، ومؤتلفات أجناس الآثار؛ فإذا بلغ خبر إلى مسامع أحد من الناس، كان كتمانه عسيرا عليه، ومن هنا كان الكتمان عادة وخلقا محمودا، ونادرا ما يقوى عليه أحد، لأن ذلك خلاف الغريزة الإنسانية، ولأن الحق تعالى خلق الإنسان محبا للإخبار والاستخبار، اللذين لا يصونان خزانة حفظ الأسرار عن الظهور، وشمس ودائع أسرار الأصدقاء عن كسوف الصروف، وتحصيصها بالانجلاء.
وعلى ذلك، فإن معرفة تواريخ وأخبار العالم تستلزم هذا الحب- حب الاستخبار والإخبار- الذي لو لم يكن مركبا في غرائز الآدميين، لما وصل للمتأخرين شيء من سنن وفضائل وأخبار وحكايات المتقدمين، ولبلغ خلل أحوال العالمين حدا لا يمكن تداركه، وسد طريق الراحة والدعة بالاقتداء بالماضين، وتلاشى بالفكر والحيرة قوام الأشباح ونظام الأرواح، ولما ظهرت آثار ثناء الأسلاف، على شعار ودثار الأرواح؛ ولانطمست أسرار البدائع والصنائع، باستار الفجائع والفظائع.
[10]
وأقسم المجد حقا لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر «1»
وعلى ما في معرفة التاريخ من فائدة عظيمة فإنه سهل التناول، ليس في الاستفادة منه كلفة أو مشقة لأن المعول في سائر العلوم إنما يقع على الحفظ والفهم، وهو في هذا العلم- التاريخ- يقع على الحفظ مطلقا؛ لأن ذلك الذي تعلمه يجعله قريبا من الوقائع والحوادث الواقعة، فيحصل له التذكر والاستعادة، ولميل النفس لذلك، فإن حفظ هذا العلم أسهل، والتجربة تشهد على ذلك، حيث يحفظ الناس من التواريخ
صفحہ 99
والحكايات في مدة لا يحفظون بها عشر ذلك من النحو واللغة والفقه والحساب وغير ذلك.
فائدة أخرى: إن الإنسان يستفيد في مدة قصيرة من أخبار وحكايات الماضين، وأحوال وعمران العالم والملوك والممالك، استفادة لا تتيسر له عن طريق المشاهدة إلا بالأعمار الطويلة، حتى ليكاد- وهو يتأمل التواريخ والقصص- أن يرى عيانا تلك الوقائع والحوادث، وتستنشق روحه عبير رياحين تلك القصص والأخبار، فيفرق بين التزوير والبهتان، والغش والأسطورة، فتدفع عنه كدورة الوحشة من منابع الوحدة، وتزيل ظلمة انقسام الخاطر عن ساحات الراحات:
يزيل الاكتئاب وقد يؤدي ... إلى كل امرئ ما غاب عنه
وقد رووا أن عامر الشعبي- وهو من علماء التابعين رحمة الله [11] عليهم أجمعين- كان جالسا في مسجد مكة يحدث بأخبار مغازي المصطفى عليه السلام، وقد ازدحم الخلق على الحلقة التي يحدث فيها، ممتعين الأسماع بحسن الاستماع، تجللهم آثار الخضوع والخشوع، وكان من بينهم جماعة من بقايا صحابة رسول الله صلوات الله عليه ورضي عنهم، من الذين قسموا أوقاتهم بين العبادات الجسدية والروحية، وشرفوا ب رضي الله عنهم ورضوا عنه
«1» ، والذين كانوا أنامل ساعد صاحب الشريعة، ووابل سحائب صدر النبوة، وأنجم أفلاك الديانة، وسهام كنانة الفتوة والمروءة، قالوا: لقد شاهدنا القوم، والشعبي أعلم بتلك المغازي منا «2» ، أي:
إننا قد نلنا سعادة حضور ومشاهدة تلك الغزوات، ورأيناها رأي العين، لكن أفكارنا لم تصل إلى وصف هذه الأحوال، وعيوننا لم تدرك دقائق نور سهيل هذا الفلك،
صفحہ 100
الذي لم تصل غايته مواقع الأقلام ومطالع الأوهام؛ بينما عامر الشعبي الذي تلقى أخبار هذه المغازي سماعا، يرويها مفصلة كاملة أكثر من تلك المودعة في خزائن حفظنا.
ولما كان الأمر كذلك، فإن كل من أعرض عن علوم التواريخ، تطاولت عليه يد الدهر، وانهالت عليه النوائب من كل الجوانب، ولم يكن له طريق من المسموع والمنقول ينجيه من تلك الآفات، فعقله لم يستنز بالتجربة؛ لأن مسالك الأوهام، ومناهج الأفهام، قد بلغت بالقصص والأخبار غاية السعة، والرجل العالم بالتواريخ يأنس بمعرفة التجربة ونورها:
بصير بأعقاب الأمور كأنه ... يرى بجميل الظن ما الله صانع «1»
[12] فائدة أخرى: إن التجربة من فضائل بني الإنسان، والتجارب مقدمات معلومة في المعارف المعروفة؛ وإن الوصول إلى الكمال إنما هو بمداد التجربة، ومهما كان الفكر محكما وثابتا، فإنه يتيه في ظلمة الوقائع، وخوف الفجائع، ولا يمكن لهذا الفكر أن ينور إلا بالتجربة، والعيش لا يهنأ بسوى معرفة أسباب النفع ودفع الضر؛ وأشجار الأخلاق لا تزدان إلا بتهذيب التجربة، وإن من بين العقول عقلا يقال له:
عقل التجارب، فكما أن كمال الثمرة في النضج، فإن كمال الفكر في التجربة، ومن الأقوال السائرة على السن العامة قولهم للمجرب: نضيج الرأي.
وللتجربة ثلاثة طرق:
صفحہ 101
الأول: ما يكسبه الإنسان من الأمور التي يباشرها بنفسه حلوها ومرها.
الآخر: ما يراه في غيره من أترابه وأقرانه ممن عاشها وعاصرها.
والثالث: أن تصله أحوال وأخبار المتقدمين، فيتيقن أسباب سعادتهم وابتلائهم.
وليس بين الطرق الثلاثة المذكورة ما هو أكثر يقينا من أن يباشر الإنسان التجربة بنفسه؛ ويليه، أن يشاهد ما يقع للناس من أبناء عصره؛ ثم ما يقرأه في التاريخ- بشرط أن يكون ناقله ثقة- فيكون كمن رآها بعينه فلا يفاجأ بشيء خلاف العادة والمعهود، ويقيس ساحة أسباب عيشه بمقاييس العقل، ويصيب بسهام آماله أهدافه ويتفرس بفراسته أنوار السعادة:
كريم خبير أخو مأقط ... نقاب يحدث بالغائب «1»
كما أوردنا ذلك في حديث الشعبي.
[13] فائدة أخرى: إن المتأمل في التواريخ، والعالم بأخبار الماضين، يعلم أنه يشاور في كل حادثة وواقعة حدثت قبله، من عهد آدم عليه السلام إلى عهده، مجموعة من عقلاء العالم؛ وهذا الأمر- العلم بأخبار الماضين- أكثر نفعا من المشاورة لأن الأكابر من الماضين والمتقدمين، كانوا ينظرون إلى مصالحهم الخاصة في الوقائع التي يبتلون بها، بينما ينظر من يشاور في الوقت الحاضر إلى مصالح غيره- أي مصالح من يستشيره- واهتمام الناس بمصالحهم الخاصة أصدق من اهتمامهم بمصالح الآخرين، وهم أكثر حرصا على حفظها من حرصهم على حفظ ما للآخرين.
ولا شك في أن المتدبر في التاريخ، في كل واقعة وقعت قبله إنما يغنم خلاصة عقول مجموعة من عقلاء العالم، فتظل يد الفتنة، وجيوش الوقائع والحوادث عن
صفحہ 102
نهب ذخائر أفكاره مغلولة، ولا تقطع شيئا من علائق قدرته؛ فيزداد نور تحمله، ويخيط نظره العبرة بخيوط الغيرة، ولا يتراكم غبار تشتت البال على فكره، فيرد البلاء، ويأمن القضاء؛ يشتري نتائج عقول الماضين بالمجان، ويستضيء بالنار التي أشعلها الآخرون:
سعدت بنو بكر بشعر مساور «1» ... إن السعيد بغيره قد يسعد
وفي الحديث النبوي: «السعيد من وعظ بغيره» «2» .
ومحمد المصطفى، الذي أضاء المشرق والمغرب بنور نبوته وجلالته، وعطر العالمان من روائحهما، ودان جبابرة العالم لشريعته، والنجاة في الدارين رهن إشارته [14] وانكشفت به رقوم خذلان المخالفين، ورسوم أمن وأمان المتابعين، ولا ينال نسخ النحوس من كوكب شريعته إلى يوم القيامة ويظل دائرا محفوظا بختم محبته، ويهب نسيم الصبا على حضرته:
صفحہ 103
السعادة لا تغادره كالصدق من الحق ... والشرف لا ينفصل عن جوهره كالنور من النار
ليس من بني البشر من لم يثن عليه ... ذلك أن الثناء عليه جوهر الكلام
فليكن قلبي هو الذي يقبله ... لأن محبته استقرت فيه
عند ما طلع خاتم سعادته، وفلك حساب سيادته، في حرب الأحزاب، أخبره سلمان الفارسي رحمه الله، بأن من رسوم العجم إذا داهمهم جيش جرار كالسيل، وكحلكة ليل الأجل في سعته وانتشاره؛ فلا يقر للمقاتلين قرار إلا على مراكب شجاعتهم، وإلا أن تصاب نياط القلوب في زوايا خبايا الصدور بضربهم وطعنهم:
مغموسة في النصر يصدر عن يد ... مملوءة ظفرا يروح ويغتدي «1»
****
في فعالهم كفعل السم في الكبد ... وفي كثرتهم ككثرة الذرات في الهواء
لا تؤثر فيهم طوارق الحدثان ... ولا يسعهم العالم الفسيح
جاءوا يحملون السيوف والحراب ... لا بسين الدروع والمغافر
أي جيش هذا الذي أحل لنفسه الدم ... كما أحل له حليب الأم؟
أيوجد دنس في طباع هؤلاء القوم ... الذين الآجال أحلى لديهم من الآمال؟
عند ما يقصد- أي ذلك الجيش- المدينة، [15] ولا يقوى سكانها على مقاومته عند اختلاط الكتائب، واختراط القواضب، وتمكين الرماح من الصدور، والسيوف من المفاصل والأعضاء، ولا يجدون ملجأ وموئلا ومعقلا يلجأون إليه:
صفحہ 104
إذا هم نكصوا، كانوا لهم عقلا ... وإن هم جمحوا، كانوا لهم لجما «1»
فإنهم يحفرون حول المدينة خندقا يحيطها كما تحيط الهالة القمر وقد سر المصطفى صلوات الله عليه من ذلك الكلام، وقاس الواقعة التي هو فيها على الواقعة الماضية، وأصدر أمره النبوي بحفر خندق يحيط بالمدينة بعرض عشرة أمتار وبعمق عشرة أيضا.
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر «2»
ولأن المصطفى عليه السلام- مع كونه نبيا رسولا- قد انتفع من تواريخ وأخبار الماضين، واستضاء بمصابيح أفكارهم في دفع البلاء، فإن على العالمين الاقتداء بالمصطفى سيد ولد آدم صلوات الله عليه، وأن يستفرغوا وسعهم في الاغتراف من بحار التواريخ وأنوار القصص، والاعتقاد بأن ما فعله المتقدمون في حفظ مصالحهم، ينبغي أن يكون درسا للمتأخرين:
وريش الخوافي تابع للقوادم «3»
فصل: وليس هناك من هو أشد حاجة لهذا العلم- التاريخ- من الملوك والأمراء، لأن كل مصالح الخلق مرهونة بفكرهم ودرايتهم، وكل ما يقع في الممالك من خير وشر، فتدبيره ودفعه منوط بأوامرهم؛ وهم بحاجة إلى معرفة الحوادث، ووقائع الملك، ومكائد الحرب، والتدابير التي اتخذها الملوك السابقون، كما يحتاج الأطباء إلى أصول ومعالجات وكتب المتقدمين، والأدباء والفصحاء إلى كتب وتصانيف
صفحہ 105
الماضين والأسلاف:
ولن تبلغ العليا بغير التجارب «1»
ثم إن الملوك عند ما يتدبرون التواريخ أو [16] تبلغ مسامعهم، يرغبون في مكارم الأخلاق والعدل والرأفة وما فيه دوام الملك، ويجتنبون ما هو سبب في البلاء والضرر وزوال الملك:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع «2»
ونخص بذلك الأمير أو الملك ذا الهمة العالية، الذي تقتضي همته أن يزيد في تفحص فضائل الملوك الماضين، وتحصل لديه الغبطة والمنافسة كما هو حاصل بين الأقران:
هي النفس ما حسنته فمحسن ... إليها، وما قبحته فمقبح «3»
فصل: إذا عرضت لأحدهم شبهة أن بعض التواريخ موضوعات ومفتريات وأساطير الأولين، وأن التمييز فيها عسير، لا متزاج الصدق بالكذب، واختلاط الغث بالسمين، والصواب بالخطإ، فالجواب على ذلك هو أنه لا ينبغي لنا أن نأخذ بعين التحقير والتصغير وقلة المبالاة أي شيء يمكن أن ننتفع به منه- من التاريخ- و «كل ما سد جهلا فهو محمود» «4» ، فالحكايات التي وضعت على ألسن الحيوانات في كليلة
صفحہ 106
ودمنة موضوعة للخبرة والتجربة، وهي مفيدة ومقبولة بصورة عامة.
حكاية: حضر في زماننا نديم مجلس وزير اختاره لمجالسته ومنادمته، وكان الوزير بخيلا، ممسكا، جعد اليدين، فجرى في ذلك المجلس حديث سماحة وسخاء البرامكة رحمهم الله، ولما كان ذلك الوزير يجد تلك الحكايات مخالفة لطبيعته وعاداته «الحر يعطي، والعبد يألم قلبه» «1» :
وغيظ البخيل على من يجو ... دأعجب عندي من بخله «2»
[17] لذلك ظن أن تلك الحكايات مستحيلة وموضوعة؛ فما أكثر الناس الذين يفتقرون لصفة ما في أنفسهم، فيتوهمون عدم وجودها في غيرهم:
والأرض لولا الغذاء واحدة ... والناس لولا الفعال أشكال «3»
فقال ذلك الوزير: إن حكايات البرامكة هذه موضوعات ومفتريات، فقال النديم: أطال الله في حياة الأمير ولي النعم في سعادة، وجعل ملكه نافذا في الموالي والأعيان، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يفتروا أمثال هذه الحكايات الموضوعات والكرم المكذوب على سيدنا الوزير؟ ألا يعني هذا انعدام ذلك هنا، ووجوده هناك؟ «4»
الناس أكيس من أن يمدحوا رجلا ... حتى يروا عنده آثار إحسان
فائدة أخرى: عادة ما يبتلى الملوك والأمراء بحفظ مصالح الملك، وتغرق أفكارهم في تلك المعاني، ويمكنهم الاستراحة من تحمل أعباء الملك بالتدبر وسماع التواريخ، لأن خواطرهم وضمائرهم تصاب بالكلل والفتور والتعب والنصب الكثير،
صفحہ 107