زياد ابن أبيه أو ابن سمية، هو أحد دهاة العرب وساستها وخطباؤها وقادتها، استكتبه أبو موسى الأشعري يوم كان أميرا على البصرة في عهد عمر بن الخطاب، ثم استخلفه عبد الله بن عباس على البصرة مدة في أيام الإمام علي. فلما اضطربت فارس ولاه الإمام علي عليها فتمكن بدهائه من إيقاع الشقاق بين الثائرين، وما زال يضرب بعضهم ببعض حتى سكنت الفتن، وزال الاضطراب، وبقي على عمله حتى قتل الإمام علي، وتولى الحسن وزياد على فارس، فلما تنازل الحسن لمعاوية عن الخلافة بعث معاوية إلى زياد يطالبه في المال، فكتب إليه: «صرفت بعضه في وجهه، واستودعت بعضه للحاجة إليه، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله»، فكتب إليه معاوية بالقدوم لينظر في ذلك، فامتنع زياد. فما ولى معاوية بسرا على البصرة أمره باستقدام زياد، فجمع بسر أولاد زياد في البصرة وحبسهم، وهم: عبد الرحمن، وعبد الله، وعباد، وكتب إلى زياد يقول: «لتقدمن أو لأقتلن بنيك»، فامتنع زياد، واعتزم بسر على قتلهم، فسار أبو بكرة - هو أخو زياد لأمه - إلى معاوية، فلما قدم عليه قال: «إن الناس لم يبايعوك على قتل الأطفال، وإن بسرا يريد قتل بني زياد»، فكتب معاوية إلى بسر يأمره بالإفراج عنهم، فأطلق سراحهم.
وخاف معاوية من زياد فصالحه، واستقدمه إلى الشام، واستلحقه بنسب أبيه سفيان. ثم ولاه البصرة في سنة 45ه/667م.
ولما قدم زياد البصرة دخل مسجدها وصعد منبره، فاجتمع الناس، فخطب خطبته البتراء.
34
الخطبة
أما بعد؛ فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله على النار؛ ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور التي ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول، إنه ليس منكم إلا من طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم الضعيف يقهر والضعيفة المسلوبة في النهار لا تنصر، والعدد غير قليل، والجمع غير مفترق. ألم يكن منكم نهاة يمنعون الغواة عن دلج الليل وغارة النهار، قربتم القرابة، وباعدتم الدين ، تعتذرون بغير العذر، وتغضون على النكر. كل امرئ منكم يرد عن سفيهه، صنع من لا يخاف عقابا، ولا يرجو معادا، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب. حرام علي الطعام والشراب حتى أضع هذه المواخير بالأرض هدما وإحراقا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما يصلح به أوله؛ لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله، لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمطيع بالعاصي؛ حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: «انج سعد فقد هلك سعيد»، أو تستقيم لي قناتكم.
إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، وقد كان بيني وبين قوم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس، إنا قد أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا. فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا.
فلما فرغ من خطبته قال له عبد الله بن الأدهم: «أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب»، فقال زياد: «كذبت، ذلك نبي الله داود.»
واستعمل زياد الشدة والعنف، وجرد السيف، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، فخافه الناس وساد الأمن وهدأت الأحوال، واستعمل عند دخوله البصرة على شرطته عبد الله بن الحصين، وأمره أن يمنع الناس من الولوج بالليل، واستكثر من الشرطة والجند ، فبلغ عدد الشرطة أربعة آلاف شرطي وعدد الجند ثمانين ألفا في البصرة، واستعان زياد في تدبير شئون الإدارة بجماعة من كبار الرجال، منهم أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن الحصين - رئيس شرطة البصرة؛ فساد الأمن، وسارت الأمور على أتم نظام، وزادت عمارة البصرة، وكثرت خيراتها، وتهافت إليها الناس من كل جانب، ويروى أنه ولى قضاء البصرة عمران بن الحصين فاستقال، فولى مكانه عبد الله بن فضالة، ثم أخاه عاصما، ثم زرارة بن أوفى.
ولما مات المغيرة بن شعبة أمير الكوفة في سنة 50ه - ويروى في سنة 49ه - ضم معاوية الكوفة إلى زياد، وجمع له المصرين - البصرة والكوفة - وهي أول مرة ضمتا معا أو أول مرة ضمت الولايتان لوال واحد، ثم ضم إليه خراسان، وأضاف إليه سجستان، ثم جمع له البحرين وعمان. فثبت زياد دعائم الملك لمعاوية، ومنذ ضمت إليه الكوفة في سنة 50ه أخذ يقيم في الكوفة ستة أشهر ومثلها في البصرة،
نامعلوم صفحہ