وجعل القوم يتقاتلون على زمام الجمل، هذا يأخذه ليأسر عائشة، والآخر يأخذه ليخلصها؛ حتى ضاع الزمام بين الأيدي، ومات دون الجمل خلق كثير من الفريقين، وأخذ الزمام سبعون قرشيا ما نجا منهم واحد - ويروى تسعون - وصار الناس يتساقطون تحت الجمل، وعائشة تنادي: «البقية البقية.»
فلما رأى علي اشتداد القتال بين الطرفين أمر بالهجوم على الجمل وأخذه عنوة، ونادى: «اعقروا الجمل»، فهجموا هجمة عظيمة، فعقروا الجمل فسقط، وانهزم جيش عائشة، فأمر علي مناديا فنادى: «لا تتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تدخلوا الدور»، وحمل الهودج من بين القتلى، فإذا هو كالقنفذ لما فيه من السهام، فجاء علي حتى وقف على الجمل، وقال لمحمد بن أبي بكر: «انظر أحية هي أم لا»، ويروى أنه قال له: «انظر، هل وصل إليها شيء من جراحة؟» فأدخل محمد رأسه في هودجها. فقالت: «من أنت؟» قال: «أخوك البر»، فقالت: «عقق»، قال: «يا أخية، هل أصابك شيء؟» فقالت: «ما أنت وذاك.» ويروى أنه لما سقط الجمل اجتمع القعقاع وزفر على قطع بطانه، وحملاه وطافا به، ثم وضعاه، ولما أراد محمد أن ينظر إلى أخته عائشة مد يده في الهودج فقالت عائشة: «من هذا؟ أحرق الله يده»، فقال لها: «قولي: في الدنيا»، فقالت: «في الدنيا». ثم أتاها علي فقال: «كيف أنت يا أماه؟» قالت: «بخير»، قال: «يغفر الله لك»، قالت: «ولك»، فلما كان الليل أدخلها أخوها محمد البصرة بأمر علي، فأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحرث بن أبي طلحة. وانتهت هذه الحادثة بمكان الخريبة بانتصار الإمام علي في يوم الخميس 22 جمادى الآخرة سنة 36ه/656م وكان اشتباكهم في القتال في يوم الخميس 15 من الشهر المذكور - ويروى في 11 منه.
وقتل من الطرفين زهاء عشرة آلاف
28
وسميت وقعة الجمل؛ لأنهم لم يروا منظرا مثل ذلك اليوم الذي تساقط الرجال فيه حول الجمل كتساقط الفراش على السراج، ولما هدأ الناس جهز علي عائشة بكل ما ينبغي من زاد ومتاع وركائب
29
واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمدا وشرذمة من الجند، وسيرها إلى مكة، ومنها إلى المدينة بالاحترام اللائق بها.
ولما كان يوم مسيرها خرج الناس لتشييعها، فخرجت يوم السبت غرة رجب سنة 36ه فوقف لها الإمام علي فودعتهم، وقالت: «يا بني، لا يعتب بعضنا على بعض، والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وبين أحمائها»، فقال علي: «صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة»، وشيعها علي بنفسه عدة أميال، وسرح بنيه معها مسافة يوم، وقد ندمت عائشة على ما فعلت وعادت بخفي حنين، وهي أول سيدة عربية قادت الجيوش في الإسلام. (7-2) إمارة عبد الله بن عباس على البصرة
ولما انتهى علي من وقعة الجمل، واستتب أمره في العراق ولى على البصرة عبد الله بن عباس - هو ابن عمه - وذلك في سنة 36ه، وسار هو إلى الكوفة. فلما كانت سنة 37ه سار الإمام علي لقتال معاوية في صفين، وسار عبد الله إلى الكوفة، واستخلف على البصرة زياد ابن أبيه، فوجه معاوية بن أبي سفيان - بعد استيلاء عمرو بن العاص على مصر - في سنة 38ه عامر بن الحضرمي - ويروى أنه عبد الله بن الحضرمي - في جمع إلى البصرة، ولما سيره قال: «يا عامر، إن جل أهل البصرة يرون رأينا في عثمان، وقد قتلوا في الطلب بدمه، فهم لذلك حنقون يودون أن يأتيهم من يجمعهم، وينهض بهم في الطلب بثأرهم ودم إمامهم. فانزل في مضر، وتودد الأزد فإنهم كلهم معك، ودع ربيعة فلن ينحرف عنك أحد سواهم؛ لأنهم كلهم ترابية فاحذرهم»، فسار ابن الحضرمي حتى وصل البصرة، فنزل في بني تميم، فأتاه العثمانية مسلمين عليه، وحضره غيرهم فخطبهم وحثهم على الأخذ بثأر عثمان.
وبلغ ذلك زيادا وهو يومئذ نائبا عن عبد الله بن عباس أمير البصرة، فكتب إلى الإمام علي بالخبر، فأرسل إليه أعين بن ضبيعة التميمي؛ ليفرق قومه عن ابن الحضرمي، فإن امتنعوا قاتل بمن أطاعه من عصاه، وكتب إلى زياد يعلمه ذلك. فلما قدم أعين نزل عند زياد، وجمع رجالا، ثم سار إلى قومه فتبعه عدد قليل، فنهض بمن معه لقتال ابن الحضرمي ومن معه، فواقفهم يوما ثم انصرف، فقتله قومه غدرا.
نامعلوم صفحہ