ممن نبغ في الأدب في المائة الثانية: الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي، أو الفرهودي، وهو أول من ضبط لغة العرب وألف فيها كتاب «العين»؛ وسماه بالعين لأنه بدأه بالكلم التي أولها العين، وابتدأها بها لأنها من الحروف القاصية وأكثر في الكلام دورانا، ولا يلحقها تغيير ولا حذف مثل الهمزة والألف، ولا همس مثل الهاء، وهي أنصع من الحاء.
وترتيب مواد الكتاب اللغوية مبني على مخارج الحروف من الحلق إلى الشفتين هكذا: ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م أ و ي. قال ابن خلدون: «إن الخليل حصر في كتاب «العين» مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي، وتأتى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاصرة؛ وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين، وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد؛ لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية، ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك، ثم الثالث والرابع، ثم يؤخذ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين فيكون واحدا، فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة وعشرين، فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب ثم تضاعف لأجل قلب الثنائي؛ لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات، وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة وعشرين؛ لأن كل ثنائية يزيد عليها حرف فتكون ثلاثية، فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية ، وهي ستة وعشرون حرفا بعد الثنائية، فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، ويضرب فيه جملة الثنائيات، ثم تضرب الخارج في ستة جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية، فيخرج مجموع تراكيبها من حروف المعجم، وكذلك في الرباعي والخماسي، فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه.
ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف، واعتمد فيه ترتيب المخارج؛ فبدأ بحروف الحلق ثم ما بعده من حروف الحنك، ثم الأضراس، ثم الشفة، وجعل حروف العلة آخرا، وهي الحروف الهوائية. وبدأ من حروف الحلق بالعين؛ لأنه الأقصى منها، فلذلك سمى كتابه بالعين؛ لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا، وهو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله، ولحق به الثنائي لقلة دورانه، وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه، وضمن الخليل ذلك كله في كتابه «العين» واستوعبه أحسن استيعاب وأوعاه.» ا.ه.
وقد وقع في كتاب «العين» خلط وغلط؛ ولهذا أنكروا نسبته إلى الخليل وقالوا إنه من جمع «الليث بن نصر» عن الخليل. وقيل: إنه كان قد شرع فيه ورتب أوائله وسماه العين ثم توفي سنة 170 بعد الهجرة، فأكمله تلامذته «النضر بن شميل» و«مؤرج السدوسي» و«نصر بن علي الجضمي» ومن في طبقتهم، فما جاء عملهم مناسبا لما وضعه الخليل في الأول، فأخرجوا الذي وضعه أولا وصنفوا بدله؛ فلهذا وقع فيه خلل كثير يبعد وقوع الخليل في مثله.
قال السيوطي: «وقد طالعته فرأيت وجه التخطئة غالبا من جهة التصريف والاشتقاق، كذكر حرف مزيد في مادة أصلية، أو مادة ثلاثية في مادة رباعية ونحو ذلك، وأما كون الخطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال: هذه اللفظة كذب أو لا تعرف! فمعاذ الله لم يقع ذلك وحينئذ لا قدح فيه؛ فالإنكار راجع إلى الترتيب والوضع الأولي، وهذا أمر هين لا يمنع الوثوق بالخليل والاعتماد عليه في نقل اللغة .» ا.ه.
وفي المائة الرابعة اختصر كتاب «العين» أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الإشبيلي، من علماء الأندلس، مستدركا ما وقع فيه من الغلط، حاذفا المهمل، وكثيرا من شواهد المستعمل، فجاء كتابا مختصرا لطيفا فاق أصله وفضل عليه، وأعجب الناس به كثيرا ولهجوا به، وتوفي مؤلفه بإشبيليه سنة 379 بعد الهجرة. (3) كتاب «الجمهرة» لابن دريد و«التهذيب» للأزهري
وفي المائة الثالثة، ألف أبو بكر محمد بن دريد المولود بالبصرة سنة 223 كتاب «الجمهرة»، وهو مبدوء ب «أب»، ثم «أت» ثم «أج» إلى آخر الحروف، ثم «بت» و«بث» و«بج» وهكذا، وبعد المضاعف يذكر الألفاظ الثلاثية ثم الرباعية وهكذا، فهو مرتب على حروف المعجم. قال الأزهري: ممن ألف الكتب في زماننا ورمي بافتعال العربية وتوليد الألفاظ «أبو بكر بن دريد»، وقال: سألت عنه إبراهيم بن عرفة (يعني نفطويه) فلم يعبأ به ولم يوثقه في روايته، وهجاه بقوله:
ابن دريد بقرة
وفيه عي وشره
ويدعي من حمقه
نامعلوم صفحہ