ولكني، مع أني سأروي تاريخ مصر أو أشير إلى الأعلام البارزة فيه مدة حياتي، فإني مع ذلك لن أكون الراوي الموضوعي؛ لأني في هذه السيرة، سوف أنظر بعدستي الذهنية وأؤثر الانفعال الذاتي على الحقيقة الموضوعية؛ لأني أترجم بالسيرة قصدا أولا، وأدون التاريخ عرضا ثانيا.
وواضح أن كل سيرة يرويها صاحبها يعيبها نقص هو الذاتية؛ إذ يشق على أذكى الناس أن يحلل نفسه ويعرض لتاريخه التحليل والعرض الموضوعيين، ولكن هذا العيب هو أيضا ميزة؛ لأن القارئ ينتفع بشيء آخر لا يجده في الرواية الموضوعية، يكتبها غيرنا عنا، وهو أنه سيقف على وقع الحوادث في الكاتب.
وقد يعيب السيرة الذاتية أيضا أن مؤلفها لن يبوح بكل ما يعرف، وخاصة إذا كان ما يحب أن يبوح به يتصل بأشخاص لا يزالون أحياء يكره أن يؤلمهم. وهناك أشخاص هم في وجداني الآن حين أذكرهم أحس أن أنفاسي تنهدات لفرط ما أساءوا إلي، ولكني لن أكتب شيئا عنهم؛ لأنهم لا يزالون أحياء. ويعيب السيرة الذاتية أيضا أن كاتبها لا يحسن التحليل لنفسه؛ لأن كثيرا مما يراه غيره فيه يعمى هو - لذاتيته - عنه. وأخيرا يعيب السيرة الذاتية أن مؤلفها سيثرثر كثيرا، وقد يغلو عن صناعته كأنها كل شيء في حياته. فالأديب يتحدث عن الأدب، والطبيب عن الطب. ولكن قليلا من العناية بالتنبه الوجداني عند الكاتب يؤدي إلى إصلاح هذا النقص.
ونحن، حين نكتب تاريخنا بيدنا، نمتاز من حيث إننا نكتب عن موضوع لا يعرف تفاصيله أحد مثلنا. وهذه ميزة كبرى وخاصة إذا حرصنا على ألا تغمرنا التفاصيل فنخطئ الأبعاد ولا نرى الغابة، في نظرة شاملة مترامية؛ لأننا نشتغل برؤية الشجرة القريبة منا.
وقد يكون الدافع الأول لكتابة هذه السيرة أني أحس - إلى حد كبير - أني منعزل عن المجتمع الذي أعيش فيه لا أنساق معه في عقائده وعواطفه ورؤياه. وعندئذ تكون هذه الترجمة التبرير لموقفي مع هذا المجتمع وهو موقف الاحتجاج والمعارضة؛ فأنا أكتب كي أسوي حسابي مع التاريخ.
وكل حياة - بصرف النظر عن الحياة البقلية البلهاء التي أشرت إليها - تستحق أن تعرف وتروى أخبارها واختباراتها؛ لأننا - كما يجب أن نقرأ عن القمم التي وصل إليها العبقري أو القديس - كذلك يجب أن نعرف الأعماق التي هبط إليها المجرم؛ إذ إن كليهما إنسان ومن حقنا أن نقف على مقدار العمق الذي تهوي إليه الطبيعة البشرية كما نقف على الارتفاع الذي تسمو إليه. ولذلك أيضا يجب ألا نستصغر قيمة السيرة، يكتبها المتوسط العادي وحتى المنحط الشاذ؛ لأن في تخلفه عن اللحاق، أو في عجزه عن السبق، عبرة قد يرجع مغزاها إلى المجتمع الذي عاش فيه فتقع تبعته على بيئته وليس عليه. وعندئذ تكون سيرته دعوة إلى هذا المجتمع كي يتغير ويتطور.
وحين يكتب أحدنا سيرته، ويخلص بقدر ما تتيح له ظروفه، يعرض - من حيث لا يقصد - للعوامل التي كونت شخصيته وربته؛ لأننا لا نتربى في المدارس فقط. إذ تربينا أيضا للعائلة التي نشأنا في أحضانها الناعمة أو بين أشواكها الخشنة. كما يربينا الشارع الذي اختلطنا بأبنائه، ثم بعد ذلك - أي بعد العائلة والمدارس - نعيش نحو خمسين أو ستين سنة ونحن نتربى بالصحف التي نقرأ كل صباح وبالكتب التي نستنير بها. ثم بالعمل الذي نرتزق به؛ لأن هذا العمل - بما فيه من حقوق وواجبات - يكلفنا تكاليف مختلفة، ويحملنا على الاختلاط والتعرف إلى الشخصيات البارزة التي كان لها أثر التوجيه الحسن أو السيئ في المجتمع، كما أن تتابع الحوادث وتغير الدنيا بالمخترعات الآلية أو الكيماوية، ثم اختباراتنا ومحننا؛ كل هذا له أثر التكوين والتربية. وكل من يكتب سيرته إنما هو الواقع يشرح للقارئ كيف ربى نفسه أو كيف ربته الحوادث. وليس معنى هذا أن التربية كانت حسنة؛ إذ ربما كانت سيئة، فإن المجرم قد انتهى إلى مأساته باستجابات ورجوع بينه وبين الوسط المادي والاجتماعي. ولو أنه استطاع أن يشرح لنا الحوادث التي انتهت به إلى الجريمة ويحلل مواقفه المختلفة من المجتمع لأخرج لنا كتابا منيرا؛ ولذلك كل سيرة - مهما يكن «سائرها» - تنفع وتنير ما دام كاتبها يكتب في إخلاص وما دام على شيء متوسط من الذكاء يحمله على أن يبصر بالعوامل المختلفة.
و«تربية سلامة موسى» هي سيرتي أبسطها لقراء الجيل الجديد حتى يعرفوا ما لم يروه أو يختبروه من الحوادث التي مرت بنا فيما بين 1895 و1947. وأعود فأكرر أنها ليست تاريخا وإنما هي وقع التاريخ في نفسي. وسيرتي هي أولا وآخرا تربيتي. وقد اقتبست العنوان من هنري آدمز، ووجدت في معناه مغزى قد ينتفع به القارئ.
وقد كتبت فصول هذه السيرة في سنتين ونشرت بعضها في المجلات؛ ولذلك قد يجد القارئ تكرارا لأن النية لم تكن في الأصل تهيئة كتاب، بل كانت مقصورة على اختيار بعض الحوادث التي مرت بحياتي مما يصح أن يكون له مغزى للقارئ أو يجد عنده اهتماما.
الطفولة والصبا
نامعلوم صفحہ