وهذه المشكلات اضطرتني إلى أن ألقي أحاديث عديدة للشبان عن السيكلوجية. وكتابي الأخير في هذا الموضوع «عقلي وعقلك» قد ناقشت فصوله قبل كتابتها معهم في قاعة المكتبة. وكثير من مؤلفاتي قد ألقيت فصولها أحاديث عائلية وطرحت للمناقشة مع الشبان، مثل «البلاغة العصرية واللغة العربية» و«الشخصية الناجعة» و«التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا» و«فن الحياة» وهذه الكتب على ما يبدو من أسمائها تختلف في الموضوعات ولكنها تتفق في أن وجهتها جميعا سيكلوجية.
وكثير من أفراد الجمهور يعتقد أن جمعية الشبان «المسيحية» خاصة بالمسيحيين، مع أن الحقيقة أن بها نحو 300 أو 400 عضو مسلم وبها عدد كبير من اليهود. وقد حدث أن أحد الطلبة من الأزهر جاءني في ذات يوم وطلب إلي أن أدله على المكان الذي يستطيع أن يشتري منه الكتاب الذي ألفته أو طبعته الجمعية عن الإسلام. وكان يعتقد أن هذه الجمعية تبشيرية وأنها لا هدف لها سوى التبشير بالمسيحية. فلما أخبرته أني لا أعرف هذا الكتاب وأن بالجمعية نحو 400 عضو مسلم لا يعرفون أيضا دهش وتركني وهو لا يكاد يصدق. والتبشير هو أبعد الأهداف عن هذه الجمعية. وفي 1937 ثم في 1938 كان للجمعية مصيف قرب العريش وكان المصطافون من الأعضاء المسلمين والمسيحيين واليهود. وكانت العادة أن نبدأ الفطور بصلاة قصيرة يتناوب فيها مسلم بقرآنه أو يهودي بتوراته أو مسيحي بإنجيله.
ومما تمتاز به هذه الجمعية أنها دائبة في التطور وهي تتكيف بالبيئة. ففي العالم نحو مليوني شاب وفتاة في فروع هذه الجمعية. ولكن نظامها في الهند غير نظامها في مصر أو في برازيل أو في الصين. وإليك بعض مراحل التطور في جمعية القاهرة: (1)
حوالي 1926 أنشأت الجمعية قسما للصبيان الذي تترجح أعمارهم بين 10 و16 سنة. ويرأس هذا القسم الأستاذ يعقوب فام الذي تعلم في جامعة ييل بالولايات المتحدة قيادة الصبيان وإرشادهم وتكوين شخصياتهم وتقويم أخلاقهم. ولا يزال هذا القسم يربي وينشئ الصبيان وهو مفخرة للجمعية. (2)
حوالي 1933 أنشأت الجمعية نادي كوبري الليمون للصبيان المحرومين الذين يجمعون من الأحياء الفقيرة ويعلمون كيف يقضون وقتهم في أعمال وألعاب تعاونية اجتماعية تبعدهم عن التسكع في الشوارع. وهذا النادي هو أولى الحركات الارتيادية لتعليم الصبيان الفقراء في مصر . (3)
حوالي 1939 شرعت الجمعية تجيز التحاق الفتيات كي يختلطن بالشبان. وقد سارت على حذر في هذا المشروع فكان الاختلاط يحدث أولا مع عائلة الفتاة حتى إذا ألفت الفتاة هذا الاختلاط صار لها أن تحضر وحدها. وقد أدى هذا الاختلاط بين الشبان والفتيات - تحت أعين المشرفين اليقظة - إلى مظهر جديد من الشخصية للفتيات وإلى لباقة ورشاقة في الحديث والإيماءة بين الشبان. فإن من المناظر السارة أن نجد في الحديقة جماعة من الشبان والآنسات، أكثرهم - بل ربما جميعهم - من الطلبة والطالبات، يقعدون إلى المائدة يشربون الشاي ويتحدثون في أنسة وصراحة لم نكن نحلم بمثلهما في شبابنا. ويرأس هذا القسم الأستاذ حنا فام الذي تعلم أيضا في الولايات المتحدة ودرس هناك شئون «الواي» أي جمعية الشبان المسيحية.
وقد عاون قسم المكتبة في الجمعية على هذا الاختلاط بما أسماه «يوم العائلة» حيث يعقد اجتماع مسائي يوما في الشهر من عائلات الأعضاء الذين يتناولون الشاي ويستمعون إلى حديث قصير من إحدى السيدات أو الآنسات المشتغلات بالشئون الاجتماعية أو الثقافية. وفي خلال الاجتماع تعزف الموسيقا أو تجرى ألعاب للتسلية. والفضل في ذلك للأستاذ غالي أمين الذي تعزى إليه أفضال كثيرة أخرى في تنظيم المحاضرات والاجتماعات بالمكتبة. وهو الآن في أمريكا.
وفي الحرب الكبرى الثانية نشط البوليس السياسي في القاهرة ومنعني من إلقاء محاضرات في الجمعية إلا بعد أن تعرض على وزارة الداخلية التي توافق على إلقائها أو ترفضها. فكنت أكتب المحاضرة - أو كما نسميها في الجمعية «الحديث» - ثم أرسل هذا إلى المحافظة فيبقى أحيانا عشرين يوما قبل أن يرد إلي مع عبارات قد ضرب عليها حتى لا أقولها. ثم يحضر عضو من البويس معه نسخة من الحديث. فأقرأ أنا الحديث أمام الأعضاء ويراجع هو علي حتى لا أخالف ما هو مكتوب. وبعد نحو شهرين من هذه الحال رأيت أن الكف عن إلقاء الأحاديث أسلم، وكففت. وكتابي «التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا» قد روجع معظمه في وزارة الداخلية على هذا الأساس. فقد كنت ألقيه أحاديث تقرأ وتراقب قبل الإلقاء ...
وقد تأسست «جمعية الشبان المسلمين» على غرار جمعية الشبان المسيحية. ولكن العضوية قصرت فيها على المسلمين دون المسيحيين واليهود. وهذا عيب كبير لأن جمعيات الشبان المسيحية هي منظمات عالمية يراد بها الإخاء البشري الذي يتجاوز الاختلافات المذهبية والدينية والعنصرية.
وأحب أن أذكر شيئا عن سكرتيري هذه الجمعية في القاهرة. فقد مر ذكر الصديقين يعقوب فام مدير قسم الصبيان وحنا فام مدير قسم الطلبة. وكلاهما - كما قلت - قد تعلم في الولايات المتحدة على نفقة الجمعية تعليما اختصاصيا للعمل الذي يقوم به. وقسم الصبيان هو دار الشفاء للصبيان الذين يبتئسون بالبيت أو يفسدون بالشارع، أو هو دار وقاية أكثر مما هو دار شفاء. وقسم الطلبة من التجديدات الرائعة في الجمعية. والاتجاه نحو الاختلاط بين الجنسين في هذا القسم قد أثمر خير الثمرات ولم يحدث قط ما يدعو إلى الأسف.
نامعلوم صفحہ