ولكن استطاع الإنجليز بعد ذلك أن يحطموا استقلالنا ويزيفوا دستورنا على يد زيور وإسماعيل صدقي وأمثالهما.
ولكننا نحن رجال الذهن المتصلين بالعقل العام في أوروبا وأمريكا كنا نتطلع إلى آفاق أخرى. ومن الحسن أن يعرف القارئ الشاب بعض اختباراتنا ومشاهداتنا في أعقاب الحرب الكبرى الأولى ويقارنها بما رأى هو وشاهد في أعقاب الحرب الكبرى الثانية.
ففي 1919 كانت مبادئ ولسن مذهبا جديدا يشبه الدين المدني الجديد للبشر على كافة الأرض. وكانت حماستنا لهذه المبادئ أحر من الحماسة التي تلقى بها العالم مبادئ روزفلت في ميثاق الأطلنطي والحريات الأربع. وظني أن من أكبر الأسباب لخمود الحماسة هنا هو ما لقيه العالم من التزييف والتعويق لمبادئ ولسن في 1919.
وقد حدثت ثورتان في الحرب الكبرى الأولى: الأولى في 1917 في روسيا حين تسلم الشيوعيون الحكم وألغوا الامتلاك الشخصي للعقارات. وهاج الإمبراطوريون في فرنسا وبريطانيا وبولونيا وإيطاليا وأنفذوا الجيوش إلى روسيا لقتل هؤلاء الشيوعيين، بل إنهم استخدموا الجيش الإلماني المقهور لهذه الغاية أيضا.
ومما لا نزال نذكره أن أتلي وبيفن - وهما من أعضاء الوزارة البريطانية الحاضرة 1947 - كانا يحرضان العمال على عصيان الحكومة في شحن الذخائر والأسلحة إلى روسيا. ونجحا في إيجاد إضراب في الموانئ الإنجليزية. وفشل تشرشل في تهيئة حملته على روسيا لهذا الإضراب. وأحدثت الثورة الروسية دهشة عامة. وكان الإمبراطوريون ينشرون الدعاية ضدها بألوان مختلفة. مثال ذلك أن الروس قد ألغوا الديانة والزواج. وإن هذا هو عاقبة الإلغاء للامتلاك الشخصي.
ولكن أهم من الثورة الروسية في نظر الجمهور المصري تلك الثورة التركية التي قام بها مصطفى كمال حين ألغى عرش السلاطين كما قطع علاقة تركيا بالشرق؛ ذلك أننا منذ 1882 كنا نتطلع إلى تركيا باعتبارها «دولة الخلافة» وكنا نأنس إلى خيال لم يتحقق قط هو أنها يجب أن تحمينا وأن ندخل في حظيرتها ونكون معها سلطنة عثمانية كبرى. فلما جاء مصطفى كمال يهدم الأسس ويوجه الأتراك نحو الغرب بدلا من الشرق ويلغي الخط العربي ويستبدل به الخط اللاتيني، ويفصل الدين من الدولة وينفض العرب والعربية عن تركيا الجديدة، لما أحدث مصطفى كمال هذه الأحداث تنبه التقليديون في مصر إلى احتمالات سياسية أخرى وانحازوا إلى الاستقلال المصري باعتبار أنه كل شيء في أهدافنا السياسية. وفرق عظيم بين هذه العقلية الجديدة وبين العقلية القديمة التي كان يتسم بها الشيخ علي يوسف في «المؤيد» حين دعا حوالي 1907 إلى أن ترسل مصر مبعوثيها أي نوابها إلى مجلس المبعوثان في الأستانة. بل كانت هذه عقلية مصطفى كامل أيضا؛ أي إنهما كانا يفسران الاستقلال المصري بأنه الانضواء إلى الراية العثمانية.
وبالطبع كان الاختلاف كبيرا بين الجمهور المصري بشأن ثورة لنين وثورة مصطفى كامل. ولكن الشعور العام إزاء هاتين الثورتين أن العالم القديم يحطم الأغلال وينطلق في حرية جديدة. ولا عبرة بأنه في انطلاقه هذا يتعثر ويكبو؛ لأنه سوف ينهض ويستقر.
وقد بعثت فينا هاتان الثورتان تفاؤلا عظيما كما بعثتا تشاؤما عظيما أيضا عند المستعمرين الإنجليز. ومن هذا التفاؤل أني أنا وبعض الإخوان ألفنا حزبا اشتراكيا في 1920 حاربتنا الحكومة بشأنه حتى قتلته.
أما حال ألمانيا فكانت شنيعة، فإنه عقب الهدنة منع الإنجليز وصول الأقوات إليها أحد عشر شهرا حتى قيل إن جميع الأطفال هناك أصيبوا بالكساح. ثم هبت ثورة سبارتكوس لتحقيق الشيوعية في يناير من 1919. ولكن فشلها كان عاجلا وخاصة بعد قتل الزعيمين كارل ليبنخت وروزا لكسمبرج. ثم جاء بعد ذلك انهيار المارك الألماني. وقد خسر فيه آلاف من المغامرين المضاربين في مصر وغيرها حين أنزله الألمان إلى الصفر وأخرجوا نقدا جديدا. فكنا نرى في مصر كيسا من الأوراق يحمله أحد هؤلاء المغامرين ويقول: إنه كلفه ألفا أو خمسمائة جنيه وهو الآن لا يساوي مليما.
وقد جاءت هذه الأحداث عقب الحرب الكبرى الأولى في تواتر فكانت مجالا للتأمل والتفكير والحديث: مبادئ ولسن، الثورة الروسية، الثورة المصرية، الثورة الألمانية، ثورة مصطفى كمال.
نامعلوم صفحہ