تربيتي الأدبية
عندما أرجع بذاكرتي إلى البذور والجذور التي نشأت ونبتت منها ثقافتي الحاضرة أجد أنها تكاد جميعها تعود إلى الفترة الواقعة بين 1907 و1911 حين كنت في لندن. ففي تلك الفترة كانت هناك طائفة من المذاهب والنظريات في الأدب والعلم «تتجرثم»، وقد كان من حظي الحسن أن أدركت الجراثيم الأولى لهذه الحركات. ومع أني الآن مشرف على الستين، فإني أجد - بالاستبطان الذهني - أن ما أعرفه أو أعتقده أو أدعو إليه من نظريات أو مذاهب في 1946 إنما أخذت جراثيمه الأولى من تلك الفترة. ولم تكن الزيادة في السنين بعد ذلك سوى زيادة في نمو هذه النظريات والمذاهب أو التوسع فيها أو التفرع منها. وظني أن هذا هو المألوف أيضا في سير التكشف الثقافي عند غيري؛ أي إننا لا نكاد بعد العشرين نجدد شيئا، وإنما قصارانا أن ندافع عما أحببنا أو تلقينا راغبين، ثم يبعثنا الحب إلى النمو بالتوسع والتعمق. وعندي البرهان على ذلك؛ فإني في 1909 ألفت رسالة صغيرة تبلغ نحو 40 صفحة بعنوان «مقدمة السبرمان»، حين أعود إليها الآن، أجد فيها جميع الجراثيم الفكرية التي لا تزال تشغل ذهني، وهي تمتاز بفجاجة في الأسلوب مع فجور في التفكير. إذا كانت تدل على عقل خام ناشئ، فهي أيضا تدل على عقل مستطلع واثب.
واندمجت في المجتمع الإنجليزي الجديد، وأعني بنعت «الجديد» تلك الطوائف والجماعات المستطلعة المتسائلة في «الجمعية الفابية» و«جمعية العقليين» وأمثالهما، وكان كل شيء في تلك السنين في البوتقة في سبيل التغير والتطور؛ فقد كان حزب الأحرار في مجده يقوده كامبل بانرمان واسكويث ولويد جورج. ولكن هذا المجد كان يحمل غبار القرن التاسع عشر. وتراكم هذا الغبار حتى لم يستطع الأحرار أن ينفضوه عنهم. فلم تمض عليهم بعد ذلك نحو عشر سنوات حتى خنقهم فلم نعد نسمع شيئا عن الأحرار بعد الحرب الكوكبية الأولى. وكانت جراثيم الاشتراكية تختمر في كل أوروبا، وكان هؤلاء الأحرار أنفسهم عجينتها التي نمت فيها هذه الجراثيم.
ولم يمض علي عام في لندن حتى وجدتني أتجه نحو اليسار أي نحو الاشتراكية. ولم يكن هذا الوجدان سياسيا فقط، فقد وجدتني اشتراكيا قبل أن أقرأ ماركس لقوة الجذب التي كانت عند الاشتراكيين في ناحيتي العلم والأدب. ذلك أن هؤلاء المجددين في السياسة كانوا أيضا مجددين في العلم والأدب، يؤمنون بمذهب داروين، ويؤلفون جمعيات لليوجنية أي إصلاح النسل، كما كانوا يقرءون الأدب الروسي ونيتشه وإبسن؛ ولذلك أدركتني الاشتراكية في تلك الأيام عن طريق الأدب أكثر مما أدركتني عن طريق السياسة. وكان «التطور» لا يزال مذهبا أكثر مما كان نظرية علمية؛ ولذلك أنفق «العقليون» مجهودا كبيرا في المقاومة السلبية للكتب المقدسة بدلا من أن ينيروا أو يشرحوا حقائق التطور.
وأذكر أنه في تلك السنوات طغى الأدب الروسي على لندن؛ فلم يكن هناك حديث أو سمر إلا عن جوركي أو دستويفسكي وأمثالهما. وأذكر أني حضرت محاضرت عن تولستوي فوجدت الحاضرين المستمعين كأنهم في معبد خاشعين. وكانت المحاضرة أيضا أشبه بعظة دينية. وكان هذا طبعا من الانحرافات في تفسير تولستوي؛ لأن مقام تولستوي في الفن كان أكبر جدا من تلك التطوحات الوعظية التي شطح فيها. وأذكر أن أحد الناشرين عرض قصة صغيرة لأحد الروس فسارت في المكتبات كأنها حريق، فلم يكن أحد يتكلم إلا عنها. وهذا يدل القارئ على المكانة العظمى التي احتلها أدباء الروس في لندن في تلك الفترة، حتى أشار إليهم برناردشو مرة بكلمة «العمالقة». ولما عدت إلى القاهرة شرعت - بهذا التأثير - أترجم «الجريمة والعقاب» لدستويفسكي وطبعت منها على نفقتي جزءا يبلغ نحو 120 صفحة. ولكني أخفقت في نشره حتى بعت هذا الجزء بسعر مليم واحد للنسخة. وثبطني هذا عن المضي في الترجمة لسائر القصة. ولكني دأبت في الحديث والكتابة عن الأدباء الروس، حتى صار كثير من القراء الذين كانوا يجهلونهم على وجدان بهم.
وفي تلك السنوات عرفت إبسن ونيتشه وبرناردشو وولز، وأذكر أني قضيت ليلة كاملة إلى الصباح وأنا أقرأ نيتشه وقد أخذني سحر أسلوبه وجراءة تفكيره. ونيتشه لا يخطو ولا يعدو، وإنما يقتحم ويثب. ولكني عندما أرجع أيضا إلى الاستبطان الذهني أجد أني لم أتأثر كثيرا به أو أن أثره كان مقصورا على سنوات، على الرغم من الحماسة التي كنت أتلقى بها مؤلفاته وأحفظ بها عباراته. فأنا الآن خلو أو كالخلو من المركبات الذهنية التي أستطيع أن أعزوها إلى نيتشه. ولكنه غرس في الإقدام النفسي وحطم عندي ما كان باقيا من قيود غيبية. أما مؤلفات داروين مثلا فكنت أقرؤها في عناء التفكير حتى كنت أترك الكتاب أياما أو أسابيع ثم أعود إليه يحفزني إحساس الواجب لا الرغبة، فلم يكن له في صدري حماسة. ومع ذلك هو الباقي الآن في كياني الثقافي. وكتابي «نظرية التطور وأصل الإنسان» هو إحدى ثمرات داروين. ولا تزال هذه النظرية تفتق في خلاياي الذهنية، وتحملني على توسع وتعمق في التفكير البيولوجي والسيكلوجي والاجتماعي.
وهنريك إبسن يعد الآن من الكتاب القدامى، ولكنه كان جديدا في تلك الفترة بين 1907 و1911. وكان وقعه في نفسي كبيرا، أكبر مما كان في نفوس قرائه الأوروبيين؛ وذلك لأنه كان يجدد في مجتمع كنت أعده أنا جديدا بالمقارنة إلى مجتمعنا المصري الجامد؛ إذ كنت أدمن التفكير في حال المرأة المصرية والمرأة الأوروبية، وكنت كثير الإعجاب بحرية الثانية في باريس ولندن وأنها تملك جزءا كبيرا من مصيرها وتقرره. ولكن درامة إبسن «بيت اللعبة» أو «بيت عروس» كشفت لي عن حقائق مرة، وبسطت لي آفاقا جديدة؛ لأن ما كنت أتوهمه عن حرية المرأة أو استقلالها في أوروبا إنما هو في نظر إبسن لم يكن سوى طلاء سطحي يخفي حقيقة الاستعباد القائمة؛ لأن المرأة لا تجد من المجتمع سوى التدليل لأنها لعبة الرجل أو هي كالعروس من الخشب يلعب بها الأطفال، أطفال الرجال الذين لا يطيقون المساواة الحقيقية بينهم وبين النساء. ومغزى الدرامة أن المرأة يجب أن ترتفع من الأنثوية إلى الإنسانية، ويجب أن ترفض التدليل وأن تربي نفسها وتكسب الاختبارات في هذه الدنيا؛ لأنها إنسان قبل أن تكون زوجة أو أما.
وعندئذ انجابت عن ذهني غشاوة، واتضح لي أن المرأة الأوروبية كالمرأة الشرقية سواء، وأن ما بينهما من فرق إنما هو طلاء الحضارة فقط، أو هو فقط فرق الدرجة في الاستعباد. وهو استعباد بعيد أحيانا عن أية رحمة أو رأفة؛ لأن المرأة التي تعمل كالرجل لا تحصل على أجره. وفي أقطار أوروبية كثيرة كانت لا تحصل على ميراثه. وكانت الجامعات ترفض قبولها طالبة، كما كانت ترفض الدولة قبولها ناخبة أو مرشحة لعضوية المجالس البرلمانية.
وليس لهذه الدرامة قيمة في أوروبا الآن؛ لأن الحال تغيرت في 1946 عما كانت عليه في 1910، بل تغيرت كثيرا جدا، وكثير من هذا التغيير يعزى إلى هذه الدرامة التي أهابت بالمرأة أن تكون إنسانا له شخصيته ومكانته في هذه الدنيا قبل أن تكون أنثى أو زوجة لها مكانتها في البيت.
وكنت في تلك السنوات لا أعرف عن المسرح إلا ما كان يخرجه لنا سلامة حجازي من التمثيل الميلودرامي والأغاني الغرامية. فكانت الدرامة عندي لهوا فنيا لا أكثر. ولكن إبسن جعل الدرامة اجتماعية بل أحيانا فلسفية. وقرأته في انتباه وقلق وتفكير وتعب. وأصبحت أصد - في اشمئزاز ذهني - عن المرأة المؤنثة المغناج، وأحترم المرأة العاملة الكاسبة التي تصر على أن تحيا وأن تعرف وتختبر. وعندي أن إبسن كان محوريا في ثقافتي؛ لأن دراماته بعثتني على دراسات أخرى متصلة بالموضوعات التي عالجها هو في أسلوبه الدرامي.
نامعلوم صفحہ