وقد كانت شهرة كتشنر حربية؛ ولذلك كانت له الكلمة العليا في الحرب الكوكبية الأولى. وقد عانى الإنجليز أعظم خسائرهم باستماعهم لمشورة كتشنر الذي أوصى بإنفاذ حملة إلى الدردنيل كانت من بدايتها لنهايتها خسارا فادحا للإنجليز وهزائم متوالية منكرة.
ولم أبق سوى بضعة أشهر في اللواء جنيت فيها مرانة حسنة على الكتابة وبعض الدراية عن الشئون الداخلية في مصر. ثم سافرت إلى فرنسا عن طريق سويسرا التي تركت لي أجمل الذكريات النفسية عن جبالها وبحيراتها ومدنها وناسها وحريتها وثقافتها.
وكنت وأنا بفرنسا أتتبع الجهاد الوطني في مصر وأشترك في معظم الجرائد والمجلات. ووجدت في «الجريدة» نزعة وطنية جديدة خلاصتها أن الجهاد يجب أن يتركز في بؤرة وطنية هي أن مصر للمصريين وليست للإنجليز أو الأتراك. وأن الشعب يجب أن يحكم نفسه بدستور حتى لا يترك الخديوي حاكما مطلقا للبلاد. وقد أدت هذه الدعوة إلى تقهقر الحزب الوطني، وإلى اعتناق الأقباط للوطنية المصرية التي كانوا قبل ذلك يتوجسون منها ويخشون أن تكون وطنية تركية لمصلحة السلطنة العثمانية.
وأخذت الحركة للمطالبة بالدستور تنتشر وتعم الأمة، وأصبح الخديوي بعيدا عن الحركة الوطنية إن لم يكن مناهضا لها.
الآفاق الأوروبية تتفتح لي
لما فوجئ العالم في أوائل أغسطس من هذا العام 1945 بالقنبلة الذرية وجد كثير من شباننا «المتعلمين» أنهم محتاجون إلى أن يراجعوا حياتهم وأن يفتشوا أذهانهم كي يعرفوا موقفهم على هذا الكوكب. وقد اضطر كثير منهم إلى أن يغيروا الأوزان والقيم الثقافية التي كانوا يرتضونها من قبل وأن يستبدلوا بها قيما وأوزانا أخرى. وقد أحدثت هذه القنبلة صدمة في أذهان هؤلاء المتعلمين أؤكد أنها لا تقل - في قيمتها الروحية - عن الصدمة المادية التي أحدثتها في هيروشيما وناجازاكي في اليابان.
أعرف من هؤلاء الشبان اثنين كلاهما يستمتع بمركز مالي حسن كما أنه على اطلاع حسن بالتيارات الثقافية العصرية. وقد كان إلى أغسطس الماضي قانعا بمعارفه وتطوراته الذهنية. ولكن هذه القنبلة كشفت له عن نفسه فجاءة. فقال لي واحد منهما: «أشتهي أن أعيش طويلا كي أتعلم وأعرف كثيرا من تطورات العالم بعد ظهور هذه القنبلة.»
وقال الثاني: «إني أحس كأني أحتاج إلى تربية جديدة كاملة أولد بها من جديد أتعلم معارف جديدة وأقف على كنه هذه القنبلة وعواقبها الحربية والمدنية.»
وقد ذكرت مثلي هذين الشابين كي أقول إني في عام 1908 أحسست مثل هذا «الوجدان» وضاقت نفسي إلى حد الانفجار؛ فقد وجدت من الأدب الذي نقله إلى العربية فرح أنطون ومن نظرية التطور التي دأب في شرحها يعقوب صروف سنوات في «المقتطف» أني إزاء رؤية أنا أعمى إلا عن بصيص منها، وأن هناك آفاقا مغلقة يجب أن يكون همي واهتمامي في حياتي أن أفتحها، وذلك بعد أن استقر عندي أن جهلي عميق، وأني في مصر أعيش في حياة ذهنية صحراوية تقفر من التفكير الخصب. لذلك قررت وأنا في التاسعة عشرة أن أترك مصر وأرحل إلى أوروبا كي أبحث عن الحياة وأربي نفسي وأولد من جديد. وكنت في ذلك الموقف الذي وجدته في أغسطس من 1945 من ذينك الشابين اللذين ذكرتهما، وأحسست كأني أريد أن أنسى - عن ظهر قلب - كل ما سبق أن تعلمت، وأن أمسح لوحة ذهني كي أنقش فيها المعارف التي أختارها بنفسي.
وكان من حظي الحسن - كما سبق أن ذكرت - أن الناحية المالية بفضل ما ورثت من عقار صغير مغل، لم تحوجني قط إلى الاهتمام بالكسب ولم يكن الإسراف أو الاستهتار في مزاجي؛ ولذلك لم أبال في دراستي أن أعين هدفا بنية الارتزاق والكسب، بل كان كل قصدي ونشاطي أن أستنير وأن أقشع الظلام المخيم على عقلي. وشرعت آخذ تربيتي في يدي وأعين برنامجي أو برامجي، لا للدرس فقط بل للحياة أيضا. بل الحق أن الدرس كان عندي هو الحياة؛ لأني شعرت أني أعيش لأدرس وأني أدرس لأعيش. ويبدو لي أني أحسنت الاختيار في هذا البرنامج؛ لأني أجد في 1945 أن همومي الثقافية لا تزال هي نفسها تلك الهموم التي كانت تشغل قلبي وذهني في 1908 و1909. وإذا كان هناك تغيير فهو في التوسع والتفرع فقط.
نامعلوم صفحہ