والراضون عن النظام الاجتماعي الحاضر في مجتمعنا الاقتنائي كثيرا ما يذكرون العائلة وأن نظامنا يؤيدها. مع أنه لا يفكك العائلات ويضع البغض مكان الحب بين أعضائها سوى الخلافات المالية التي تلابس هذا النظام. وقل أن نجد عائلة متوسطة أو ثرية بلا خلاف مالي بين أعضائها مرجعه طمع أحد أعضائها ورغبته في الاستئثار دون الآخرين. ولم تنج عائلتنا من هذه الخلافات التي سودت العلاقات، ولو أننا كنا نعيش في نظام اشتراكي ومجتمع تعاوني غير اقتنائي لما كان هناك مجال لهذه الخلافات التي تكاد تعم العائلات في أيامنا.
واحد على آخر أو طمع واحد في آخر. وكلها مطامع مالية ما كانت لتكون لولا أننا نتعلم منذ الطفولة بأن هذا لي وهذا لك، وإنني يجب أن أتفوق عليك في اللعب والعمل وفي المدرسة والمجتمع. روح خبيث يقال لنا إنه يعمل للرجولة مع أنه يعمل للعداوة والبغض والحقد. وقد لقيت أختي الصغرى عناء بل سرقة صريحة من بعض أعضاء عائلتنا. ولم يكن المرتكب لهذه السرقة يحس أنه مجرم، بل كان يتباهى لأن روح المباراة - هذا الروح الاقتنائي الذي ننشأ عليه - قد أكسبه هذه العقلية. وكلنا مغموسون في هذا الفساد بدرجات متفاوتة. ولذلك قل أن نجد مثل ذلك الرجل الشهم الذي أشرت إليه غبريال سعد بك يعارض هذا الروح الاقتنائي ويطلب الخير لغير أبنائه.
وجميع العائلات المصرية موبوءة بالشقاق الذي يرجع إلى مطامع ثم خلافات مالية بشأن الميراث أو الوصية أو الوقف. وقد عرفت عائلات بقي الخلاف فيها بين الإخوة نحو عشر سنوات وهم مشتتون في المحاكم الأهلية، ثم المحاكم المختلطة؛ إذ كان أحد الإخوة يعمد إلى أجنبي مشاكس فيأجره على المعاكسات التي تنقل القضايا من المحاكم الأهلية إلى المحاكم المختلطة وتصل إلى الإسكندرية. يفعلون هذا وينقطع كل منهم عن زيارة الآخر وتنمحي عاطفة الأخوة بينهم فيعودون أعداء يبحث كل منهم عن دماء الآخر. ولا أكاد أجد عائلة تخلو من هذه الخلافات إلا إذا كانت تخلو من العقارات الموروثة. فقد عرفت عائلة مسلمة قريبة من عزبتنا ترك الأب فيها للورثة أكثر من 150 فدانا، ثم جعلها وقفا وعين ناظرا للوقف أكبر أبنائه. ثم فشا الخلاف بين الورثة وكانوا يزيدون على عشرة. فلم يكن من هذا الناظر إلا أن أجر الأرض الموقوفة كلها إلى رجل يوناني أو إيطالي، وجاء هذا الرجل إلى الأرض يزرعها بنفسه، وأصبح الورثة يتضرعون إليه كي يعطيهم نصف أردب من الذرة أو القمح أو جنيها أو جنيهين ... وأعرف رجلا آخر كان ثريا «باع» أرضه لورثته. ولم يكن الغرض من هذا البيع سوى التمييز لبعض دون بعض. وكان هذا البيع بالطبع صوريا. وكان يعتقد أنه سيبقى متصرفا إلى يوم وفاته. ولكنه عندما قصد إلى عزبته - عقب البيع - كي يبيع القطن، قابله الخولي وأخبره بأنه لا يملك شيئا؛ لأن ابنه الذي «اشترى» منه يمنعه من التدخل في أرضه، وحزن الرجل واحتقن الحزن في قلبه فأصابه فالج مات به بعد أقل من شهرين.
وأيام صباي يملؤها شقيقي الذي يكبرني بأربع سنوات. وكنت أعده بطلا لجراءاته واقتحاماته. وقد ذهبنا معا إلى كتاب مسيحي ثم إلى كتاب إسلامي. ثم عدت إلى كتاب مسيحي. وخرجت من هذه الكتاتيب الثلاثة بعد ثلاث أو أربع سنوات وأنا لا أحسن قراءة سطر، وإنما أحفظ عن ظهر قلب بعض الصلوات المسيحية وبعض سور القرآن. ولم أشرع في القراءة إلا بعد أن دخلت المدرسة الابتدائية التي أنشأتها الجمعية الخيرية القبطية في الزقازيق.
وكان شقيقي طفلا ذكرا بعد بنات أربع. وأذكر من بعض اقتحاماته أنه ألف في الزقازيق عصابة كنت أحد أعضائها. وألف علي الشمسي «باشا» عصابة أخرى؛ ففي ذات يوم انفردت بنا عصابة علي الشمسي وأوسعتنا ضربا وإيلاما لخصومة كانت قائمة بينه وبين شقيقي. ولكننا بعد ذلك استدرجنا علي الشمسي إلى طريق ناء شمال الزقازيق ثم أثخناه بالعصي والأحجار حتى عاد مريضا. وكان والده أمين الشمسي باشا يعرف عائلتنا لصداقة قديمة بينه وبين أبي. ولم أكن أمر عليه وهو أمام منزله حتى أقبل يده فيسألني عن أعضاء عائلتنا. وكان فيما بين 1895 و1900 مغضوبا عليه من رجال الحكم؛ لأنه كان عرابيا في ثورة 1882؛ إذ انضم إلى الحركة الوطنية ضد الخديوي توفيق مع أنه كان شركسي الأصل. وكان الصراع بين عرابي والخديوي صراعا - إلى حد بعيد - بين الأتراك والشركس من جانب وبين المصريين من جانب آخر. ولكن أمين الشمسي باشا عرف عدالة المطالب المصرية وانضم إلى العرابيين.
ولما كنت في إنجلترا في 1908 أرسلت إليه خطابا أقترح عليه فيه إنشاء مدرسة لتعليم أبناء الفلاحين الذين يعملون في أرضه وأرضنا، وكنا متجاورين لأن عزبته كانت ملكا لجدي ولا يزال اسمها «كفر سليمان» باسم جدي. وأرسلت مثل هذا الخطاب إلى كبراء المالكين من عائلتنا، ولكن خطابي لم يجد سوى التسلية عندهم جميعا؛ لأن الوجدان التعليمي كان لا يزال في مصر خامدا. ولم يكن خطابي سوى ثمرة الوسط المتمدن المتنبه لقيمة التعليم في لندن.
وقد باع جدي «كفر سليمان» هذا إلى الشمسي باشا قبل أن أولد أنا بنحو 15 سنة - حوالي 1872 - ولكني نشأت على الاصطلاح بأنه «الكفر القديم» وهو يبعد عن كفرنا الجديد بنحو كيلو متر. وقد زرته وأنا طفل مع بعض أقاربي فأروني بيتا أو زريبة كانت تسمى «بيت العبيد» أي المكان الذي كان يحجز فيه العبيد في الليل ويقفل عليهم حتى لا يفروا ...
وبالطبع لم تكن في أيامي عبودية ولا عبيد. ولكن الذكرى كانت قريبة؛ فإني وأنا طفل كنت أخوف بكلمة «فرج» وهي اسم عبد مات في إحدى غرف المنزل وبقيت ذكراه تتسلسل للتخويف من إخوتي إلي. وكذلك رأيت امرأتين سوداوين إحداهما كعب الخير والأخرى زهراء. وكانتا جارتين عندنا شملهما قانون تحرير العبيد ولكنهما لم تنقطعا عن زيارتنا. بل كانت إحداهما تقضي الشهور - عندما تترك زوجها - في بيتنا، وكانت تكل إلى أمي مفاوضات الصلح مع زوجها حين كان يعود لطلبها.
وكانت بيني وبين شقيقي نحو أربع سنوات؛ فلذلك لم تكن بيننا رفقة أو زمالة. وقد وجدت هذه الرفقة والزمالة في ابن خالة لي يدعى ميخائيل، وكان من سني. وقد ترافقنا طفلين ثم صبيين ثم شابين. ومن الذكريات البارزة في صباي مدينة بسطة الفرعونية. فقد كنت أزورها مع ابن خالتي هذا حين كانت لا تزال بيوتها قائمة. والغرف في بعض هذه البيوت كانت لا تزال تحتفظ بجوها الحميم حتى مكان المسرجة في الطاق كان واضحا بسواد دخانها. وكانت الشوارع الضيقة سالكة بين البيوت. وهذا إلى عشرات من التماثيل الحجرية، ولم يبال الإنجليز أن تمحى هذه المدينة مع قيمتها التاريخية العظمى؛ إذ جعلوا بيوتها وأنقاضها سمادا «كفريا» ينقله الفلاحون إلى حقولهم. ولم يعد لها من أثر الآن.
وكان ميخائيل يسكن في بيت يجاور منزلنا، فلم نكن ننفصل طوال النهار، وإليه أعزو نزعتي الثقافية؛ فقد كان منذ صباه يحب الشعر ويتفصح، وكنت أعجب بفصاحته. وكنا نشتري المؤيد ونقرؤه معا. بل تجرأنا ذات مرة على أن نؤلف درامة جعلنا فيها البطل ملكا يقص حلما على المسرح ثم يتحقق هذا الحلم. ولكننا لم نثابر إلى النهاية فقطعناها في منتصف الفصل الأول. وقد ثابرت أنا بعد ذلك على الدراسة وانقطع هو عنها. ولكنه لم يقاطعها؛ فإني ما زلت إلى الآن عندما ألتقي به أجد فيه الالتفات إلى الحركات الأدبية بل أجد النقد الذكي. ولكن من ينظر إليه هذه الأيام لا يعتقد أن سنه تزيد على الأربعين مع أنها لا تقل عن 59 أو 60 سنة. وقد يعزو بعضهم هذا الشباب إلى حياة السرور التي كان ولا يزال يؤثرها على أي أهتمام آخر. وبقينا مترافقين مدة التعليم الابتدائي ثم افترقنا حيث توظف هو والتحقت أنا بالمدارس الثانوية بالقاهرة. ولكنا كنا أيام الإجازات لا نفترق. وقد اهتززت سرورا وتأملا قبل سنتين عندما زارني بالقاهرة أحد الأقارب المزارعين ورأى حولي مئات الكتب، فتأملها ثم تنهد وقال: «لم يغرس فيك هذه العادة المرذولة سوى هذا الملعون ميخائيل ابن خالتك.» وقد قال هذه الكلمة الصادقة؛ لأنه كان يرانا فيما بين 1901 و1904 نقرأ معا وندرس معا في هوس لم يكن يجد فيه هو سوى خسار المال والذهن والوقت.
نامعلوم صفحہ