ومات أبي ولما يبلغ عمري السنتين. ونشأت لذلك في بيت لا يزوره ضيف، إلا إذا كان من الأعمام أو الأخوال، فزادني هذا الظرف انزواء على ما ورثت من المزاج الانطوائي. وقد صار هذا الانزواء بعد ذلك فضيلتي ورذيلتي معا؛ فقد كانت تمضي علي السنة والسنتان لا أعرف فيها القعود على القهوة، كما أني إلى الآن أجهل ألعاب الحظ الاجتماعية البسيطة بالورق أو غيره مما يتسلى به غيري، كما أجهل التدخين. وما زلت أفر من المجتمعات في استحياء أو كراهة، ومع أني أحسن الكتابة فإني أسيء الخطابة؛ لأن الأولى تؤدى في انفراد، والثانية تحتاج إلى مجتمع. وقد عانيت كثيرا من هذا النقص الاجتماعي في حياتي بعد ذلك. ولكني أعزو إلى انطوائيتي هذا الاعتكاف في مكتبتي، وهو الذي بسط لي آفاقا واسعة من الحكمة وأمتعني بجنات نضرة وغرس في نفسي ديانة بشرية سامية.
وأولى الذكريات التي تمثل في ذهني من أيام الطفولة: صورة أمي وهي قاعدة إلى فراشي تصلي من أجلي وأنا مريض. ولا أعرف كنه هذا المرض الذي ألزمني الفراش نحو عام أو عامين. والأغلب أني مرضت به وأنا في الخامسة أو السادسة، ولعله كان حمى الملاريا؛ لأن الزقازيق كانت في ذلك الوقت حافلة بالبرك الآسنة. ولما قاربت الشفاء كان خادمنا عطية يحملني إلى ضريح ولي مسلم يدعى أبا عامر. ولا يزال ضريحه قائما بقرب الزقازيق. وكان يشتري الشمع ويتصدق بقروش، ويدور بي حول الضريح ويتمسح به ويقرأ الفاتحة جملة مرات وأنا على عاتقه. وكان عطية متعلقا بي يهمل شئون البيت كي يقعد بجواري ويلاعبني وأنا مريض. وبقى أكثر من عشر سنوات بعد ذلك بمنزلنا. وكان حبه لي ساذجا يطغى، فكان يلقمني الطعام حتى أعجز عن البلع، وكان هذا العجز علامة الشبع عنده، ولم يتركنا إلا بعد أن اشترى فدانا وآثر الفلاحة على الخدمة المنزلية.
ومما أذكره من تلك السنوات؛ أي بين 1895 و1898، أن وباء الكوليرا فشا في الزقازيق، فكانت النعوش تخرج متوالية وليس وراءها سوى شخصين أو ثلاثة، وعم الذعر بين السكان ولكن توالي الموت كان أيضا مجالا للفكاهات. وكنا نحن الصبيان أكثر السكان فكاهات، فكنا نسير جماعات صغيرة فإذا سمعنا فزعة الموت بصراخ النسوة قابلناها ب «هيه ...» ثم نجتمع أمام البيت كي نرى الشعائر الأخيرة. وكانت هذه الشعائر تجري في سرعة واقتضاب.
وكان مما يحدث أن بعض الصبيان الذين كانوا في جماعتنا يقع هذا الوباء في بيوتهم، فيتركونا. ولكنا لم نكن نضن عليهم بهذه المظاهرات. ولم يكونوا هم على وجدان بالمأساة إذ سرعان ما كانوا يعودون إلينا قبل أن ينفض المأتم، وأعني بالمأتم صراخ النسوة يجتمعن في البيت. أما إقامة السرادقات للعزاء فلم يكن الوقت يتسع له لوفرة الوفيات.
وأدخلت الكتاب، ولم تكن بدعة المدارس قد ظهرت في الزقازيق. وقضيت من السنين ما لا أذكره وأنا أجهل القراءة. وكانت غاية العريف أن يعلمني عن ظهر قلب بعض الصلوات، فلما حفظت «نعظمك يا أم النور»، وهو دعاء إلى العذراء، رافقني إلى البيت وقعد هو أمام أمي وانطلقت أنا أسرد الدعاء . وناولته أمي على أثر ذلك جنيها.
وتألفت في الزقازيق جمعية خيرية من الأقباط، وكان أول نشاطها أن أنشأت مدرسة «عصرية»؛ أي إنه كان بها مقاعد من الخشب ومعلمون في زي أوروبي. وانتقلنا من الكتاب إليها. وشرعنا نتعلم وندرس في جد، ثم ظهرت المدرسة «الأميرية» فدخلناها. وكان التلاميذ يلبسون الجلابيب إلى أن زار الخديوي عباس هذه المدرسة حوالي 1899 فطالبونا باتخاذ الزي الأوروبي. وحصلت المدرسة من كل تلميذ على 25 أو 30 قرشا ثمن بذلة بيضاء لكل منا. وزارنا الخديوي ونحن في هذا الزي الأبيض الناصع. ولم نعد بعد ذلك إلى الجلابيب.
ولا يستطيع مصري التحق بالمدارس المصرية الابتدائية والثانوية الأميرية فيما بين 1900 و1920 أن يقول إنه كان هنيئا بالحياة المدرسية؛ فقد كانت هذه المدارس ثكنات، وكان كل ما يستحق الاهتمام فيها هو النظام؛ أي الطاعة. ولم نكن نعرف ذلك الروح الديمقراطي الذي يعم المعاهد التعليمية في هذه السنين. وكذلك لم تكن هناك أية ألفة بين المدرس والتلميذ. وكانت هذه الصفات أبرز في المدارس الثانوية منها في المدارس الابتدائية، حتى كان العام يمر والتلاميذ لا يعرفون اسم المعلم الإنجليزي الذي كان ينطق صمته قبل حديثه بالغطرسة. وكان المعلم يسرع إلى العقوبة لأقل إيماءة مخالفة من التلميذ. وكانت العقوبة المألوفة أن يحرم التلميذ من الغداء ويعطى رغيفا يأكله وهو واقف إلى جنب زملائه القاعدين إلى المائدة. ولست أظن أنه كان يقصد بهذه العقوبة سوى تعميم الذلة والهوان بيننا.
وكان التعليم في المدارس الابتدائية أقل ذلة؛ لأن المعلمين كانوا مصريين، ولكن حتى هنا كان القرن التاسع عشر يثب علينا بأساليب في الضغط والعربدة. فكان المعلم أحيانا يعمد إلى أسلوب في العقاب يفشي بيننا الكراهة والوقيعة؛ ذلك أنه إذا أخطأ أحدنا ورده تلميذ آخر إلى الصواب عمد هذا الثاني إلى لطم الأول على خده. فإذا تعطف هذا الضارب وأدى العقوبة تأدية شكلية استعاده المعلم وطالبه بالضرب الجدي. فإذا انطلقنا بعد ذلك من الفصل إلى الفسحة أمسك المضروب بخناق الضارب وانتقم منه.
ولكننا كنا نهنأ بالإجازات المدرسية التي كنا نقضيها في الريف. وهي لا تزال تبرز في ذهني كأجمل وأنصع ذكرياتي. وفي هذا الريف اكتسبت كثيرا من الاختبارات التي لا تتحقق لأطفال المدن. وكانت قريتنا تبعد عن الزقازيق نحو ساعة على الحمار. وكنا نلعب مع صبيان المزارعين إلى الساعات الأولى من الصباح. وأحيانا كنا ندبر السرقات في الحقول للخيار أو البطيخ. ولا يزال عالقا بذاكرتي بعض الاقتحامات والصبوات؛ فقد تسلقت ذات مرة شجرة كان في أطرافها العليا عش. فلما بلغته وجدت فيه فرخي غراب، فأمسكتهما بيدي وشرعت أهبط. ولكني ما كدت أترك العش حتى وجدت ثورة من اللطم المؤلم والعض الشنيع تغمر رأسي ووجهي، وطار عقلي وأنا في هذا الاضطراب. فلم أتنبه إلى أن هذه الثورة هي أم الفرخين يساعدها أب أو عم. ولو كنت أدركت لخليت عن الفرخين ونزلت في سلام. ولكني لفرط الألم والرعب بقيت في غشية مغمض العينين وأنا ممسك الفرخين أتحسس طريقي الخطرة على فروع الشجرة إلى أن مسست الأرض. وهنا أفقت وفتحت عيني فوجدت ثلاثة أو أربعة من الغربان تصرخ بي وتسب وتهاتر بعد أن أثخنتني وضرجت رأسي ووجهي بالدماء.
ومرة أخرى في إحدى جولاتي سمعت خشخشة في ديس عند حرف القناة، فلما اقتربت وجدت جحرا وظننت أني قد هبطت على عش سأخرج منه بغنيمة. فلما أدخلت يدي قبضت على جسم طري، فجررته فإذا به ثعبان.
نامعلوم صفحہ