تربیہ و تعلیم فی اسلام
التربية والتعليم في الإسلام
اصناف
168
أما الجامع الأزهر والمعاهد العلمية الأخرى التي شادها الفاطميون فلم تكن مدارس بالمعنى الاصطلاحي، وهي بجامع عمرو بن العاص والجامع الطولوني في مصر ودار الحكمة ودار العلم في بغداد وطرابلس على ما سنفصله بعد، ف «المدرسة» إذن بمعناها الاصطلاحي المعروف وجدت في الشرق أولا ولم ينتظم أمرها وتتخذ طريقها الثقافي الواسع إلا حين أسس نظام الملك الطوسي «مدارسه» في بغداد وغيرها من عواصم الدولة الإسلامية التابعة للسلطة السلجوقية في عهده. ويعتبر عمل نظام الملك هذا أول عمل رسمي قامت به الدولة الإسلامية لتنظيم الدراسة وترتيبها بتهيئة الأسباب وإيجاد الموارد الضرورية، وإعداد الرواتب والنفقات للأساتذة والطلاب، وتثبيت بعض التقاليد التي كانت غير مستقرة قبلا مما يتعلق بأنظمة الدروس وتقاليد العلم والتأليف والقضاء على الفوضى التعليمية التي كانت سابقا.
ولا يعترض على هذا بأن العلم كان مزدهرا في الدولة الإسلامية قبل تأسيس «المدرسة»، وأن النتاج الفكري كان عظيما من قبل؛ فإن همم الناس كانت في العصور الإسلامية الأولى تتغلب على كل العقبات، أما في القرن الخامس وما بعد حين فقد فترت الهمم وكثر الهدامون فوجب الاعتناء بالعلم وأهله وتهيئة الأسباب لذلك؛ ولهذا كان عمل نظام الملك المصلح الاجتماعي والإداري الكبير عملا جليلا صان به الحركات العقلية وحماها من التدهور وسوء المصير، على أن نظام المدارس، وإن كان قد صان العلم وحفظه، فإن كثيرا من العلماء لم يكونوا يميلون إليه، بل فضلوا النظام السابق - أعني نظام التعليم الحر في «المساجد» - على نظام «المدارس» وأسلوبها الجديد المبني على النظام والترتيب؛ فمن ذلك ما يروى عن بعض العلماء في ما وراء النهر أنهم لما بلغهم تأسيس «المدارس» في الشرق أقاموا مأتما للعلم وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجر تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل،
169
ومن ذلك قول ابن الجاح في المدخل: «... لا يخلو موضع التدريس من ثلاثة أحوال، إما أن يكون بيتا أو مدرسة أو مسجدا، وأفضل مواضع التدريس المسجد؛ لأن الجلوس للتدريس إنما فائدته أن تظهر به سنة، أو تخمد به بدعة، أو يتعلم به حكم من أحكام الله علينا، والمسجد الذي يحصل فيه هذا الغرض متوفر؛ لأنه موضع الناس رفيعهم ووضيعهم وعالمهم وجاهلهم بخلاف البيت، فإنه محجور على الناس إلا من أبيح له وذلك لأناس مخصوصين، وإن كان العالم قد أباح بيته لكل من أتى لكن جرت العادة أن البيوت تحترم وتهاب؛ فكان المسجد أولى لأنه أهم في توصيل الأحكام وتبليغها للأمة، وكذلك أيضا بالنظر إلى هذا المعنى يكون المسجد أفضل من المدرسة لوجهين؛ أحدهما: أن السلف لم تكن لهم مدارس وإنما كانوا يدرسون في المساجد وإن كان ذلك في المدرسة فيه المنفعة والخير والبركة، لكن لما أن لم يقع ذلك للسلف كان أخذه في المساجد فيه صورة الاقتداء بهم في الظاهر وإن كان غيره يجوز، وكفى لنا أسوة بهم. الوجه الثاني: أن المدرسة لا يدخلها في الغالب إلا آحاد الناس بالنسبة للمسجد؛ لأنه ليس كل الناس يقصد المدرسة وإنما يقصد أعمهم المساجد، وليس كل الناس أيضا له رغبة في طلب العلم، وإذا كان التدريس أيضا في المدرسة امتنع توصيل العلم على من لا رغبة له فيه ...»
170
فهذا يدل على أن كثيرا من زهاد العلماء وأهل البصيرة في المشرق كرهوا اتخاذ المدارس كما كره المغاربة ذلك، ولكن الضرورة هي التي دفعت المشارقة إلى تأسيس هذه المعاهد، وللضرورة أحكامها. (2-2) المدرسون وآدابهم
كانت المدارس تبنى لبعض الأئمة الكبار الذين أوتوا نصيبا من العلم عظيما كما رأينا فيما سبق من بناء المدارس للأئمة البيهقي والإسفرائيني وابن قورك البستي، وهم من كبار أئمة الإسلام في علوم الدين والحديث والعربية والآداب والكلام، ولما بنى نظام الملك السلجوقي مدرسته في بغداد اختار لها إمام أئمة الشافعية في عصره، وهو أبو إسحق الشيرازي، وكذلك جعل في كل مدرسة من المدارس التي بناها في ديار الإسلام شيخا جليل القدر معروفا في تلك المدينة بالفقه والدين والورع وسعة الاطلاع. وكذلك كان بناة المدارس بعده يختارون لمدارسهم شيوخا عرفوا بالعلم الواسع والخلق الرضي. وقد تعارف الواقفون منذ القديم على كثير من الشروط التي يجب أن تتوفر في المدرسين والأساتذة والشيوخ. ولما انتظمت شئون المدارس في القرن السادس وما بعده - بعد تأسيس المدارس النظامية التي أضحت المثل الذي احتذاه الواقفون ومؤسسو المدارس فيما بعد - صار لتلك المدارس ومدرسيها تقاليد وآداب وقواعد حين قامت في الشرق وفي العراق والشام ومصر والمغرب تلك المدارس.
فمن تلك التقاليد احترام الطالب أستاذه احتراما يجعله في مصاف الوالدين بل أسمى منهما مقاما، قال الإمام الغزالي: «فمن علم وعمل بما علم فهو الذي يدعى عظيما في ملكوت السموات؛ فإنه كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة في نفسها، وكالمسك الذي يطيب غيره وهو طيب، ومن اشتغل بالتعلم فقد أتى أمرا عظيما وخطرا جسيما فليحفظ آدابه ووظائفه ...»
171
نامعلوم صفحہ