تربیہ فی اسلام
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
اصناف
وهذا الذي فعله في مسألة الأجر فعله في جميع المسائل الأخرى، فهو يصف ما يجري عليه المعلمون في أحوالهم، ثم يفسرها في ضوء التاريخ، لهذا رجع إلى مالك، وإلى ابن وهب وإلى ابن القاسم، وإلى ابن سحنون في كتابه الذي دونه عن سحنون. ولم يتطور العالم الإسلامي كثيرا في طريقة تعليم الصبيان منذ عصر سحنون إلى زمن القابسي.
الواقع إذن هو الصورة التي يدور حولها القابسي، فيؤيد ما يستحسنه ويذم ما يستقبحه وما ذكره ابن خلدون في مقدمته خاصا بطريقة التعليم بإفريقية ينطبق على الوصف الذي ذكره القابسي من أن الصبي يتعلم القرآن، والكتابة والخط، وبعض النحو والإعراب. على حين أن الحساب والشعر والنحو والعربية والغريب، ليس تعليمها لازما إلا إذا تطوع المعلم.
رأي واحد هو الذي نستطيع أن نعتبره من النظريات المثالية التي تمنى القابسي ذيوعها، وهو الرأي القائل بإلزام التعليم. فقد أوجب تعليم الصبي من مال أبيه أو وصيه أو أحد أقاربه أو من مال أحد المحسنين، أو يعلمه المعلم احتسابا. ولم يكن جميع صبيان المسلمين يتلقون التعليم ويعرفون القراءة والكتابة، ولكنه رأي رغب القابسي في أن ينتشر، فسبق بذلك عصره، ودل على بعد نظره.
من هذا كله نخرج بالنتيجة الآتية، وهو أن موضوع التعليم الذي ذكره القابسي كان وصفيا يقرر فيه الواقع، ويحيطنا بلون من ألوان البيئة العقلية في أحد جوانبها، وهي بيئة المعلمين في الكتاتيب.
وتختلف هذه الصورة عما كان معهودا عن حال التعليم في الصدر الأول من الإسلام، وتختلف أيضا عن صورتها بعد عصر القابسي، إلى جانب اختلافها في المكان مما سنذكره فيما بعد، في أن هذا اللون من التعليم الذي بين أيدينا هو تعليم إقليمي وليس عاما. وهذا التغيير في الزمان طبيعي؛ لأن المجتمع لا يدوم على حال، بل يتطور وينمو ويزدهر وقد ينحط ويتدهور، كما هي سنة الكائنات الحية جميعا. ولم يكن هذا التطور خافيا عن ذهن القابسي، فقد أشار إليه في مناسبات عدة وذكر أن المسلمين الأوائل لم يعرفوا المعلمين المنقطعين إلى هذه الصناعة التي يتناولون عليها الأجر، ويجعلونها مصدر الكسب وعماد المعاش. فإذا انتفى وجود المعلمين فقد اختفت صورة التعليم المنظمة الداخلة بين جدران الكتاتيب، واختفى معها أوقات الدراسة، وطرق التعليم، ومناهج العلم، وأدوات التأديب. وإنما نشأ هذا كله بعد النبي وبعد عصر الصحابة. حتى إذا بلغنا القرن الرابع قدم إلينا القابسي هذه الصورة التي سادت في شمال إفريقية. وتغيرت أحوال التعليم بعد القرن الرابع الهجري، ولكنه ليس تغييرا عظيما يختلف عن الجوهر المألوف، بل هو تغيير شكلي. فقد انتظمت الكتاتيب نوعا ما، واستقرت لعناية أولي الأمر بها، ورصد الخيرات من مال الأوقاف للصرف عليها. وبذلك ضمنت البقاء والحياة. (6) تعليم إقليمي أم تعليم عام
هل الوصف الذي بسطه القابسي يختص بالإقليم الذي يعيش فيه، أم هو وصف لحالة التعليم والمعلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي؟
هذه مسألة لا بد أن نرجع فيها إلى التاريخ، للموازنة بين رأي القابسي وآراء غيره. والعالم الإسلامي ينقسم على وجه العموم إلى قسمين كبيرين: الشرق ويشمل بلاد العرب وفارس والعراق والشام ومصر؛ والغرب ويشمل شمال إفريقية والأندلس.
وقد وصف حالة تعليم الصبيان في هذه الأقطار المختلفة ابن خلدون في مقدمته وأبو بكر ابن العربي في بعض كتبه. ونجد شذرات متفرقة خلال كتب التاريخ والفقه والأدب تفيد في الحكم على طريقة التعليم في المشرق والمغرب.
وهناك أمور اتفق عليها المسلمون جميعا منذ أشرق نور التعليم واهتم به أولياء الأمر. هذه الأمور هي التعليم في الكتاب، وقيام معلمين مخصوصين بالتعليم يتناولون الأجر على ذلك. فالثابت أن الكتاتيب انتشرت بعد الصدر الأول من الإسلام، وأصبحت المكان المخصوص بتعليم الصبيان. واتخذ بعضهم التعليم صناعة عرف بها، ومنهم من برز في العلم والأدب، مثل الحجاج بن يوسف الثقفي وأبيه، وعبد الحميد الكاتب
18
نامعلوم صفحہ