تربیہ فی اسلام
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
اصناف
وقد يذكر حكما من غير بيان الأسباب التي تدعو إلى القول بهذه القاعدة. مثال ذلك ما جاء عن الحفظ حيث قال: «ومن الاجتهاد للصبي ألا ينقله من سورة حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها.» 59-أ.
ومن المسائل التي تدل على بصر بالأمور الاجتماعية ما ذكره عن الجمع بين الجنسين في التعليم، وعن الاحتراس من البالغين. فقال: «ومن صلاحهم ومن حسن النظر لهم ألا يخلط بين الذكران والإناث.» وقال: «إنه لينبغي للمعلم أن يحترس بعضهم من بعض إذا كان فيهم من يخشى فساده.» 57-أ.
وقد أجاز القابسي العرف في مواضع كثيرة كما جاء عند الكلام في البطالة: «وأما تخلية الصبيان يوم الخميس من العصر فهو يجري أيضا عرف الناس.» 57-أ. «وكذلك بطالة الأعياد على العرف المشتهر المتواطأ عليه.» 61-ب.
أما إذا كان العرف غير مستحسن فإنه ينبه على وجوب الابتعاد عنه. ومثال ذلك ما ذكره عن صنيع المعلمين الذين يبعثون الصبيان في مناسبات الزواج والولادة لطلب الهدايا، إذ: «لا يحل للمعلم أن يكلف الصبيان فوق أجرته شيئا.» 62-ب.
هذه الشواهد السابقة تبين في وضوح أن المنهج الذي اتبعه القابسي هو منهج الفقهاء، وبالأخص منهج أصحاب الحديث، الذين يتلمسون الآثار، ويكرهون الابتداع. وعندنا أن اتباع هذا المنهج في بحث أمور الدنيا يؤدي إلى التقييد، ويمنع حرية الرأي، وكثيرا ما ينتهي إلى الجمود. أما التقييد فناشئ عن الوقوف عند آراء الفقهاء السابقين بحيث لا ينبغي أن يخرج الباحث عنها. ونحن لا نتجنى على الفقهاء ولا نعتسف هذا الرأي اعتسافا نسوقه بغير دليل، بل هو الواقع الذي لا سبيل إلى الشك فيه؛ لأنهم ارتضوا لأنفسهم الوقوف عند آراء صاحب المذهب، وحرموا بعده الاجتهاد. قال ابن خلدون: «ولما صار مذهب كل إمام علما مخصوصا عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس، احتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق، وتفريعها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب إمامهم، وصار ذلك كله يحتاج إلى ملكة يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة، واتباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا. هذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد، وأهل المغرب جميعا مقلدون لمالك.»
33
فأنت ترى أن ابن خلدون ينص على أن الفقهاء الذين جاءوا بعد الأئمة «لم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس.» وإنما كان سبيلهم «التنظير والتفريع.»
والقابسي يجري على هذه النظرية كما يصرح بذلك قال: «فقد بينت لك وجوه جواز أخذ الإجارة على تعلم القرآن، وما يجوز أن يعلم بالأجر، وما يكره من ذلك للمعلم والمتعلم، وما اختلف أصحابنا فيه من كراهية له أو توسعة.» 47-ب.
أما الجمود فهو نتيجة التقييد ومنع حرية الرأي. ذلك أن المجتمع يتطور مع الزمن، وتتغير عقليته ، وتختلف أساليب معيشته. وهذه هي سنة الحياة: التطور والتغير والحركة. إذن فلا بد من منهج عقلي يختلف عن ذلك المنهج النقلي ليلائم مظاهر الحياة الاجتماعية الدائمة التغير. ولكن منهج أصحاب الحديث بما يعرضه من أصول ثابتة ينتهي إلى الوقوف عن مسايرة الحياة. وهذا هو الجمود.
وينبغي ألا يغيب عن بالنا أن طريقة التعليم في الكتاتيب كما وصفها القابسي في كتابه ظلت متبعة في أغلب تفاصيلها إلى عهد قريب في كثير من أقطار المسلمين، ولم يشرع المسلمون في تغييرها إلا حديثا عندما اشتد الاتصال بين الشرق وأمم الحضارة الغربية. ومن يقرأ كتاب (الأيام) للدكتور طه حسين، يلمح التشابه الشديد بين وصف حياة الكتاب المصري، وعلاقة الصبيان بمعلم الكتاب، ووصف تلك الحياة والعلاقة كما ذكرها القابسي. ومحور تلك الحياة هو الختمة أو حفظ شيء من القرآن كما هو معروف.
نامعلوم صفحہ