تراجم مشاہیر الشرق فی القرن التاسع عشر (الجزء الاول)
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
اصناف
وفي اليوم التالي نزل الباشا من القلعة وطوسون معه، وطاف المدينة يأمر الناس بإيقاف النهب، وقتل كل من حاول ذلك، ولكنه حرض على قبض من يظفرون به من المماليك في سائر أنحاء القطر، فكانوا يأتون بهم أفواجا يسوقونهم كالغنم إلى الذبح، فبلغ عدد من قتل من البكوات 23 بيكا، وفي اليوم التالي نزل طوسون باشا إلى الأسواق في فرقة من الجند؛ لتسكين الخواطر وإيقاف النهب. أما الجثث التي كانت في القلعة فاحتفروا لها حفرا جعلوا فوقها التراب، وصرح محمد علي باشا بحماية نساء المماليك، ولم يسمح بتزويجهن إلا لرجاله.
ولما خلت البلاد من المماليك عكف محمد علي على المهام الأخرى، وأخصها مسألة الوهابيين، فكتب إلى غالب شريف مكة يخبره بإعداد حملة تنقذه من الوهابيين فيفتح طريق الحرمين لجميع المسلمين، وطلب إليه أن يمهد له السبيل فأجابه شاكرا ووعده بالمساعدة.
أما سعود أمير الوهابيين فأنبأته الجواسيس بما نواه محمد علي، فأمر فاجتمع حوله خمسة عشر ألفا ليدفع بهم جنود مصر. أما حملة طوسون فركبت من البحر من السويس حتى أتت ينبع على الساحل الشرقي من البحر الأحمر، ومنها يتصل إلى المدينة، فتملكوا ينبع، وساروا منها إلى صفر وفيها معسكر الوهابيين وقد تأهبوا للدفاع، فهجم طوسون باشا فتقهقر سعود ورجاله أولا ثم ارتدوا على الجيوش المصرية فانهزموا تاركين كل مؤنهم وذخائرهم وجمالهم، وعادوا إلى ينبع، فعلم محمد علي باشا بذلك فجند جندا كبيرا مددا لابنه، فاشتد أزر طوسون وجمع إليه القوتين وسار حتى أتى المدينة، فأطلق عليها النار فهدم بعض السور، ثم دخلها وأثخن في حاميتها حتى سلمت فكف السيف عنها، فانتشر خبر افتتاح المدينة في سائر الحجاز فخاف الوهابيون وفرح أعداؤهم، ولا سيما الشريف غالب، وكان في جدة لا يدري ماذا يكون من أمر تلك الحملة، فلما علم بانتصارها كاد يطير من الفرح.
وأجلي الوهابيون عن مكة خوفا من أهلها، فجاءها طوسون واحتلها، وكتب إلى أبيه ففرح فرحا لا مزيد عليه لما آتاه الله من النصر على يد ابنه نصرا لم يأت لغيره من القواد العثمانيين، وجيء إليه بقائد حامية المدينة من الوهابيين، فأرسله في خفر إلى الآستانة فقتلوه حال وصوله إليها. أما من بقي من دعاة الوهابيين فكانوا لا يزالون في مأمن خارج مكة تحت قيادة كبيرهم سعود.
فلما جاء صيف سنة 1812م/1228ه علموا أن جنود طوسون لا يحتملون حر تلك البلاد، وأنهم إذا ناهضوهم إذ ذاك يتغلبون عليهم، فجندوا وساروا إلى تربة شرقي مكة فحاربوها واستولوا عليها، ثم ساروا إلى المدينة وهددوها بعد أن استولوا على كل ما بين هاتين المدينتين من القرى والمدن، فاتصل الخبر بمحمد علي فلم ير بدا من ذهابه بنفسه لنصرة الجنود المصرية، وقد أصبحت مصر في مأمن من المماليك وغيرهم، فسار في جند عظيم حتى أتى جدة فنزلها في 30 شعبان سنة 1228ه/28 أوغسطس (آب) سنة 1813م فلاقاه الشيخ غالب شريف مكة، ورحب به، وبعد أن أدى فروض الحج رأى أن الشريف ليس ممن يعتمد عليهم في الدفاع، فعمد إلى خلعه بطريقة تضمن حقن الدماء، ففاز ثم وضع يده على ممتلكاته، وبعث به وبعائلته إلى القاهرة، ومنها إلى سالونيك فعاش فيها أربع سنوات ومات. أما الوهابيون فمات قائدهم سعود في درعية في 26 ربيع آخر 1229ه/17 أبريل (نيسان) سنة 1814م فانحطت سطوتهم فأقاموا عليهم ابنه عبد الله، ولم يكن كفئا فحصلت بينه وبين الجنود المصرية مناوشات كبيرة لم تأت بنتيجة، وفي 28 محرم سنة 1230ه 10 يناير (ك2) سنة 1815م) حصلت معركة بين جنود محمد علي والوهابيين تحت قيادة فيصل أخي عبد الله شفت عن انتصار المصريين، فتقدم طوسون إلى نجد إلا أنه اضطر أخيرا إلى التوقف لقلة المؤن وهو لم يبلغ درعية.
ثم اقتضت الأحوال عود محمد علي إلى مصر فعاد وقد فتح طريق الحرمين، ولكنه لم يبد جميع الوهابيين، فوصل القاهرة في 4 رجب سنة 1230ه فاهتم بتدريب الجند على نظام جند أوروبا ، وهو أول من فعل ذلك في مصر، فأصدر أمرا عاليا في شعبان سنة 1230ه مؤداه أن الجنود المصرية ستدرب على النظام الحديث وهو النظام الفرنساوي، فعظم على رجاله - ولا سيما الأرناءوط - الامتثال إلى هذه الأوامر، فرأى أن يدخل هذا النظام أولا بين الجنود الوطنية؛ لأنهم أقرب إلى الطاعة من هؤلاء الألبانيين ومن كان على شاكلتهم.
وفي أثناء ذلك عاد طوسون باشا من الحجاز، فخرج الناس لملاقاته بالاحتفال والإكرام، ثم نزل الإسكندرية حيث كان أبوه مقيما فوجد امرأته قد وضعت في أثناء غيابه غلاما دعته عباسا، وبعد يسير أصيب طوسون بألم شديد في رأسه وحمى لم يعش بعدها إلا بضع ساعات، وكان محمد علي في القاهرة، ولما اتصل به الخبر كان على ضفة النيل الغربية بجوار أهرام الجيزة، فقالوا له: إن طوسون مريض، فأسرع إلى الإسكندرية لمشاهدته، فلما دنا من المكان علم بوفاته فوقف مبغوتا لا يبدي حراكا، وبقي على مثل هذه الحال ثلاثة أيام متوالية، ونقلت جثة طوسون باشا إلى القاهرة ودفنت قرب مسجد الإمام الشافعي وراء جبل المقطم حيث مدفن العائلة الخديوية اليوم.
وبعد قليل عاد محمد علي إلى روعه فأخذ يهتم في أمر الوهابيين خشية أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فكتب إلى عبد الله بن سعود أن يأتي إليه بالأموال التي استخرجها الوهابيون من الكعبة، وأن يتأهب متى قدم للمسير إلى الآستانة، فأجابه يعتذر بعدم الشخوص، وقال: إن تلك الأموال قد تفرقت على عهد أبيه، وأرسل له هدايا فاخرة، فأرجع إليه محمد علي تلك الهدايا وأوسعه تهديدا، ثم جرد إليه حملة عهد قيادتها إلى ابنه إبراهيم وكان باسلا مقداما، وقائدا مجربا، لا يهاب الموت، شديد الغضب سريعه، ولكنه كان سليم القلب حر الضمير؛ ولذلك كانت أحكامه عادلة صارمة.
شكل 1-5: إبراهيم باشا بلباسه العسكري.
وفي 10 شوال سنة 1231ه سار إبراهيم باشا بحملته من القاهرة في النيل إلى قنا ، ومنها في الصحراء إلى القصير على شاطئ البحر الأحمر، ومنها بحرا إلى ينبع ثم إلى المدينة، وتربص هناك بجميع قواته استعدادا لهجوم شديد امتثالا لمشورة أبيه، فالتفت حوله عصبة جديدة من القبائل المتحابة، ولما تكاملت قواته أقام الحرب سجالا، وما زال بين هجوم ودفاع حتى فاز وقبض على زعيم الوهابيين عبد الله، فأرسله إلى أبيه، فوصل القاهرة في 18 محرم سنة 1233ه، فأذن له بالمثول بين يدي الباشا وتقبيل يديه، فرحب به كثيرا؛ لأنه كان يعجب بجسارة الوهابيين، ثم سأله ما ظنه بإبراهيم؟ فأجابه قائلا: «إنه قد قام بواجباته ونحن قمنا بواجباتنا، وهكذا أراد الله.»
نامعلوم صفحہ