تراجم مشاہیر الشرق فی القرن التاسع عشر (الجزء الاول)

جرجی زیدان d. 1331 AH
120

تراجم مشاہیر الشرق فی القرن التاسع عشر (الجزء الاول)

تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)

اصناف

المصلحون الذين يصلحون الدين بعد فساده؛ لأن الدين إذا مر عليه بضعة قرون فسد وتغير شكله وانقلب وضعه تبعا لمطامع الذين يتولون شئونه، فتفسد الأمة وينحط شأنها حتى يقوم من يصلحه ويعيده إلى رونقه.

ووضع الأديان عمل شاق قل من يفوز به، والإصلاح الديني لا يقل مشقة عنه، وربما كان إدخال دين جديد أيسر من إصلاح دين قديم؛ فالديانة المسيحية لم تكلف البشر في قيامها من الدماء أكثر مما كلفتهم في إصلاحها، على أن ما يضيعه رجال الدين في نشره من الدماء، يعوضونه بسرعة انتشاره؛ اعتبر ذلك في الفرق بين النصرانية والإسلام في قيامهما، ويقال نحو ذلك في الإصلاح؛ فقد طلبه وسعى فيه غير واحد من رجال النصرانية، فلم يتفق منهم إلى إصلاح كبير غير لوثير؛ لأن أهل السياسة نصروه، ولا بد من استعداد الأذهان لقبول الإصلاح وتهيئة الأسباب الأخرى، فكم نهض من المصلحين بالسيف فغلبوا على أمورهم وذهب سعيهم عبثا، وأقربهم عهدا منا صاحب مذهب الوهابية في نجد؛ فقد استفحل أمره في أوائل القرن الماضي، وأراد في الإسلام نحو ما أراده لوثير في النصرانية فلم يوفق إلى غرضه؛ لأن الجنود المصرية غلبته وفلت عزيمته. أما المصلحون بالموعظة الحسنة والتعليم فعملهم بطيء، ولكنه أرسخ في الأذهان، وأصبر على كوارث الحدثان، والشيخ محمد عبده واحد منهم. (3-2) هو وجمال الدين

نشأ الشيخ المفتي نير البصيرة، حر الضمير، وربي في الإسلام وتعلم علومه، فشب غيورا عليه، ثم اطلع على علوم الأمم الراقية من أهل هذا التمدن، ودرس تاريخ الاجتماع ونواميس العمران، فرأى الإسلام في حاجة إلى نهضة ترفع شأنه وتجمع كلمته، واتفق اجتماعه بالسيد جمال الدين الأفغاني، فأخذ عنه الفلسفة والمنطق والحكمة المشرقية، وكان جمال الدين غيورا على الإسلام راغبا في جمع كلمته ورفع شأنه، فتوافقا في الغاية، ولكنهما اختلفا في الوسيلة؛ لأن جمال الدين سعى في ذلك من طريق السياسة، فأراد جمع شتات المسلمين في أربعة أقطار العالم تحت ظل دولة إسلامية واحدة، وقد بذل في هذا المسعى جهده، وانقطع عن العالم من أجله فلم يتخذ زوجة ولا التمس كسبا، وإنما جعل همه السعي إلى تلك الغاية فلم يوفق إلى غرضه لأسباب عمرانية طبيعية لا محل لذكرها. وكان الشيخ محمد عبده رفيقه في كثير من مساعيه، واطلع على دخائل أموره، وعرف أسباب حبوطه، فعلم أن جمع كلمة المسلمين ورفع شأنهم من طريق السياسة لا يتيسر الوصول إليه، فسعى فيه من طريق العلم، فجعل همه رفع منار الإسلام، وجمع كلمة المسلمين بالتعليم والتهذيب وتقريبهم من أسباب المدنية الحديثة؛ ليستطيعوا مجاراة الأمم الراقية في هذا العصر، ورأى ذلك لا يتأتى إلا بتنقية الدين مما اعتوره من الشوائب التي طرأت عليه بتوالي العصور وتغلب الدول واختلاف أغراض أصحابها وأئمتها، كما أصاب النصرانية في القرون المتوسطة؛ إذ تمسك الناس بالعرض وتركوا الجوهر، واستغرقوا في الأوهام ونبذوا الحقائق، والسبيل الوحيد لمغالبة الأوهام والخرافات إنما هو العلم الصحيح على ما بلغ إليه في هذا العهد، وعلم الفقيد رحمه الله أن محور العلوم الإسلامية اليوم مصر، ومركز العلم بمصر أو في العالم الإسلامي كافة «الجامع الأزهر» فرأى أنه إذا أصلح الأزهر فقد أصلح الإسلام، فسعى جهده في ذلك فاعترضه أناس من أهل المراتب يفضلون بقاء القديم على قدمه، واستنصروا العامة عليه، وغرسوا في أذهانهم أن المفتي ذاهب بالمسلمين إلى مهاوي الضلال والبدع، فلم يهمه قولهم؛ لعلمه أن ذلك نصيب أمثاله من قديم الزمان، على أنه لم ينجح في إصلاح الأزهر إلا قليلا، ولكنه وضع الأساس، ولا بد من رجوع الأمة إلى تأييد هذه النهضة ولو بعد حين، فيكون الفضل له في تأسيسها.

على أن الجانب الأعظم من علماء المسلمين وخاصتهم يرون رأيه في إصلاح الدين ورجاله، وبما سبقه كثيرون منهم إلى الشعور بحاجة الإسلام إلى ذلك، ولا سيما المتخرجين بالعلوم العصرية من الناشئة المصرية، ولكنهم لم يجسروا على التصريح بأفكارهم في غير المجتمعات الخصوصية؛ لئلا ينسبهم الناس إلى المروق من الدين، فلما جاهر محمد عبده برأيه، وافقوه وصاروا من مريديه، ونصروه بألسنتهم وأقلامهم؛ فحاجة الإسلام إلى الإصلاح ليس هو أول من انتبه إليها، ولكنه أول من جاهر بها، كما أن لوثير المصلح المسيحي ليس أول من انتبه لحاجة النصرانية إلى الإصلاح، ولكنه أول من جاهد في سبيلها، وقد فاز بجهاده لقيام السياسة بنصرته. وأما مصلح الإسلام فكانت السياسة ضده، وإنما حمله على تلك المجاهرة حرية ضميره، وجسارته الأدبية، ومنصبه الرفيع في الإفتاء. (3-3) الإسلام والمدنية

فلما صرح الشيخ محمد عبده بحاجة الإسلام إلى الإصلاح، انقسم المسلمون إلى فئتين: فئة ترى بقاء القديم على قدمه، وهم حزب المحافظين، وفئة ترى حل القيود القديمة وإطلاق حرية الفكر، والرجوع إلى الصحيح من قواعد الدين، ونبذ ما خالطه من الاعتقادات الدخيلة، وكان رحمه الله زعيم هذه الفئة يناضل عن مبادئها بلسانه وقلمه وبكل جارحة من جوارحه، وكانت مساعيه من هذا القبيل ترمي إلى غرضين رئيسيين: الأول تنقية الدين الإسلامي من الشوائب التي طرأت عليه، والثاني تقريب المسلمين من أهل التمدن الحديث ليستفيدوا من ثمار مدنيته علميا وصناعيا وتجاريا وسياسيا، فأهل العصبية الإسلامية يرون هذا التقريب مغايرا لما يرجونه من استقلال المسلمين بالجامعة السياسية؛ لأن مجاراة أهل التمدن الحديث بأسباب مدنيتهم وتسهيل الاختلاط بهم يضعف عصبية الإسلام على زعمهم، ويبعث على تشتيت عناصره فيستحيل جمعها في ظل دولة واحدة . ولكن الشيخ المفتي كان يرى ذلك الاجتماع السياسي مستحيلا في هذه الحال، فلم يشأ أن يضيع وقته سدى كما أضاعه أستاذه وصديقه جمال الدين، وأن يخسر فائدة تقرب المسلمين من أسباب هذا التمدن، فسعى في ذلك بما نشره من فتاويه المتعلقة بالربا، والموقوذة، ولبس القبعة، ونحو ذلك مما يقرب المسلمين من الأمم الأخرى ويسهل أسباب التجارة. (3-4) تنقية الدين

وأما تنقية الدين الإسلامي من الشوائب الطارئة عليه فأساس سعيه فيها أنه أطلق فكرة الحرية في تفسير القرآن، ولم يتقيد بما قاله القدماء أو وضعوه من القواعد التي يحرم الأئمة تبديل شيء منها، فرأى أن يحل نفسه من هذه القيود، ويفسر القرآن على ما يوافق روح هذا العصر، فيجعل أقواله وآراءه فيه موافقة لقواعد العلم الصحيح المبني على المشاهدة والاختبار، ولنواميس العمران على ما بلغ إليه هذا العلم إلى الآن مع مطابقته لأحكام العقل وأصول الدين، كما فعل النصارى في تفسير الكتاب المقدس بعد ثبوت مذاهب العلم الجديد، وهو أوعر مسلكا في الإسلام لارتباط الدين بالسياسة فيه، والقرآن أساس الدين والدنيا عندهم فيعلقون على تفسيره أهمية كبرى؛ لأنه مرجع الفقه وغيره من الأحكام الشرعية والسياسية؛ ولذلك رأى أهل السنة تقييده بأقوال الأئمة الأربعة، وخالفهم الشيعة باستبقاء باب الاجتهاد مفتوحا، فلا يرون بأسا في العدول عن تفسير إلى آخر بشروط يشترطونها في مفسريهم، وهم يعرفون عندهم بالأئمة المجتهدين. (3-5) التفسير

وقد توالى على تفسير القرآن أحوال تختلف باختلاف العصور من الإسلام إلى الآن ترجع إلى أربعة أعصر:

الأول العصر الشفاهي:

وهو ينحصر في أيام النبي وأصحابه، فقد كانوا عند ظهور الدعوة كلما تليت عليهم سورة أو آية فهموها وأدركوا معانيها بمفرداتها وتراكيبها؛ لأنها بلسانهم وعلى أساليب بلاغتهم، ولأن أكثرها قيلت في أحوال كانت القرائن تسهل فهمها، وإذا أشكل عليهم شيء منها سألوا النبي فيفسره لهم، وكان التفسير مختصرا بسيطا لسذاجة الدولة الإسلامية يومئذ.

ثانيا العصر التقليدي:

نامعلوم صفحہ