Tarajim al-Muʾallifin al-Tunisiʾin
تراجم المؤلفين التونسيين
ناشر
دار الغرب الإسلامي
ایڈیشن نمبر
الثانية
اشاعت کا سال
١٩٩٤ م
پبلشر کا مقام
بيروت - لبنان
اصناف
مقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد فقد كنت منذ عهد الشباب الباكر مغرما بتتبع تراجم التونسيين، وإذا عثرت على كتاب في تراجمهم أو مقالة في مجلة أو صحيفة في ترجمة أحدهم فكأنما ظفرت بكنز، وينتابني الفرح والسرور. وكان من أول الكتب التي طالعتها وأنا يافع في المرحلة الأولى من التعليم الثانوي كتاب (المؤنس) لابن أبي دينار، وتاريخ مقديش (نزهة الأنظار) كما كنت ولوعا بتتبّع آثار التونسيين في الأدب والتاريخ والتراجم فطالعت في هذا الطور «زهر الآداب» لإبراهيم الحصري، و«عنوان الأريب» للشيخ محمد النيفر، و«المنتخبات التونسية» لحسن حسني عبد الوهاب. ولا داعي للإطالة بسرد أسماء الكتب، ويكفي منها ما يدل على الاتجاه في المطالعة والإقبال بشوق ولهف عليها وقد كنت لا أهمل أية فرصة للمطالعة بالاستعارة من الأفاضل الأكرمين، أو بغيرها من الوسائل التي تهيأت لي حتى أني أذكر أن الحاج سالم عبد الناظر الكوّاش (الفران) صناعة - وقد مارس هذه الصناعة بتونس العاصمة، وكوّن مكتبة بها مجموعة من المخطوطات الصالحة، تلاشى غالبها في قائم حياته، وأهديت بقيتها بعد وفاته إلى المدرسة الثانوية بطريق العين (مدرسة ١٥ نوفمبر) - أتذكر أني قصدته ذات مرة للطّلاع على مكتبته واستعارة ما يوافق مبتغاي، وبعد جلسة تحدّث فيها عن حياته ومعرفته لبعض أعلام تونس المرموقين المشهورين، وإقبال بعض رجال صفاقس على الاستعارة من مكتبته، لم تطب نفسه بتلبية رغبتي وبّل ظماء شوقي لصغر سني، وكان هذا الرجل ﵀ صعب المراس، ملتوي التفكير.
وقد استمر هذا الاتجاه ينمو كلما تقدمت بي السن واتسع الاطلاع إلى أن دار بخلدي جمع تراجم المؤلفين التونسيين فشرعت في هذا العمل في ٢٧ جويليه ١٩٦٤ وأنجزت مجموعة من
1 / 5
التراجم رتبتها من أول الأمر على حروف المعجم، ثم جاءت أسباب قطعت مواصلة السير، منها تراكم مشاكل الحياة اليومية، زيادة عن ظهور بعض المؤلفات والبحوث الجديدة مما دعاني أحيانا إلى الإضافة أو التعديل والتنقيح، حتى أن بعض التراجم أعدت كتابتها مرتين أو ثلاثا، فقلت في نفسي: هذا عمل شاق لا آخر له. وكلما صدر كتاب جديد في تاريخ تونس أو في تراجم أعلامها أطالعه ثم أنتقي منه ما أريد من تراجم ومعلومات لها صلة بهذه التراجم، وقلت في نفسي: هذه مشقة أخرى مطالعة وانتقاء وإضافة، متى تنتهي هذه السلسلة المتلاحقة؟ أما لها من آخر؟
واعترى عزيمتي الضعف، وساورها اليأس وضؤل نشاطى في التدوين، ثم ان المطالعة والبحث والكتابة مع تعدد المشاريع توزع الجهد ولا تساعد كثيرا على الإنتاج ذي الوجهة المعيّنة والمادة الغزيرة والحجم الكبير، وانقطعت عن مواصلة العمل مدة تقرب من ثماني سنوات ثم بدا لي مراجعته ومواصلته حتى يتم وقلت في نفسي أنجزه ولو كان فيه بعض جوانب نقص شعرت بها من أول وهلة لقلة ما لديّ من مادة ووسائل.
وغرضي من وضع هذا الكتاب هو سهولة الكشف عن تراجم المؤلفين التونسيين قدامى ومحدثين لذا رتّبته على حروف المعجم، أذكر اللقب العائلي، وإن اشتهر المترجم له بنسبته البلدية فقط اقتصرت على هذه النسبة. هذا وأشعر بأن التراجم متفاوتة في الكم والكيف وسبب ذلك أن بعض المترجم لهم لم تتوفر لدي المادة الكافية للإفاضة في ترجمتهم فاجتزأت بما وجدت وقد جالت بخاطري فكرة هي أن تبقى هذه التراجم مذكرة شخصية لي، وبعد التروي قلت في نفسي، إن إنجاز هذا العمل لا يخلو من فائدة للقاصرين أمثالي، ثم أنه إذا برز للوجود وتفضل الكاتبون الكرام والنقّاد ببيان ما فيه من جوانب نقص، كنت أنا أول المستفيدين من هذا البيان فأبذل جهدي لتلافي النقص في ملحق أو في طبعة ثانية إذا يسّر الله، وإذا بقي هذا التصنيف قابعا في زاوية من زوايا البيت أحرم من هذه الفوائد، ومثل هذا العمل عرضة للتحوير والتنقيح كلما ظهر جديد أو توفرت مواد لم تكن معروفة من قبل.
وقد حاولت في كل ترجمة ذكر ما تيسّر لي من آثار المترجم له وعقبت كل ترجمة بذكر مصادرها ومراجعها ولم أهمل ذكر ما وقفت عليه من صحف ومجلات.
وهذا التأليف أشبه شيء بالفهرس وقد سميته (تراجم المؤلفين التونسيين) وترجمت فيه للوافدين على تونس المتوفين بها، كما ترجمت فيه لعلماء إباضية من جزيرة جربة، ويلاحظ المتأمل أن بعضهم من ذوي الثقافة المحدودة وأن إنتاجهم ليس بذي قيمة كبيرة وأنّ بعضهم من نوابغ الأعلام ذوي المواهب الغزيرة والإنتاج الثري المتنوع الذين كان لهم فضل في إثراء المكتبة العربية الإسلامية، وقد عجبت من إهمال المؤرخين التونسيين - من غير الإباضية - ترجمتهم والتنويه بهم ولا داعي لهذا غير التعصب المذهبي، وقد سار في هذا الطريق بعض المعاصرين، وإخواننا الإباضية لا يبذلون جهدا كبيرا في التعريف بأنفسهم، وكتبهم مخطوطة محتكرة عندهم لا
1 / 6
يجدون في نشرها إلاّ قليلا منها لا تشبع نهم المتطلع المستشرف للمزيد، مع أن البعض منها وهو كثير يهم كل المسلمين والمثقفين بصفة عامة ككتب التفسير والتاريخ والتراجم، ولولا ما قام به بعض المعاصرين من التعريف بأعلامهم كالأستاذين الصادق بن مرزوق وفرحات الجعبيري الجربيين التونسيين وعلي يحيى معمر النفوسي الليبي لبقي كثير من هؤلاء الأعلام مغمورا في طي الخفاء والكتمان. ولهؤلاء الثلاثة فضل كبير في هذا الميدان وقد اعتمدت عليهم كثيرا في ترجمة أعلام مرموقين من جربة أو من نزلائها المتوفين بها.
هذا والعناية بهم ما زالت محدودة المدى ضيّقة النطاق مع أن الكثير منهم جدير بكل تقدير وتنويه وحبذا لو يتفرّغ بعض الباحثين من شباب جزيرة جربة لإصدار دراسات خاصة في رسائل بحيث يخصص لكل واحد منهم رسالة أو يقع جمعهم في تأليف خاص يسمى (أعلام جربة) أو نحو ذلك حتى ينتشر ذكرهم ويشيع أمرهم ويصبح الجهل بهم أمرا لا يليق بكل مثقف متتبع لسير الحركة العلمية والحضارية بوطنه.
وبودّي لو يخصص ملتقى ثقافي باسم أحد أعلام جربة الأجلاّء كالتلاتليّ أو سعيد بن تعاريت الأول أو الثاني، أو من الوافدين عليها المدفونين بها كأبي القاسم البرادي، والجيطالي، ويوسف المصعبي وابنه محمد، لأن الجزيرة أخرجت على مدار القرون أعلاما لهم مكانتهم لا في المذهب الإباضي فقط بل في التفكير الفلسفي الإسلامي، وفي التاريخ التونسي. وإذا كان للإمام ابن عرفة ملتقى سنوي في مدنين وللشيخ علي النوري ملتقى في صفاقس ولابن أبي الضياف المؤرخ ملتقى في سليانة وللقلصادي العالم الرياضي ملتقى في باجة فلماذا لا يكون بجربة ملتقى سنوي باسم البرادي أو الجيطالي أو ابن تعاريت، أو غيرهم من ذوي الآثار العلمية والتاريخية يبدو أن رواسب الماضي ما زالت تعمل عملها بدون شعور أو قصد، نرجو أن يقع التدارك في المستقبل القريب بحول الله.
هذا ولا يفوتني أن أشكر كل من قدّم لي إعانة كبيرة أو صغيرة كالصديق الشاعر الأستاذ محمد الشعبوني في تاريخ وفيات بعض المعاصرين، أو تاريخ طبع إنتاجهم أو إعارة إنتاجهم المطبوع، والصديق الأستاذ الصادق بن مرزوق في ترجمة بعض علماء جزيرة جربة، والأستاذ عبد الله الزناد في ترجمة الشيخ محمد مخلوف المنستيري، والأستاذ محمد الحبيب السلامي في ترجمة قريبة شيخنا محمد المهيري، أشكرهم جزيل الشكر وهو غاية ما أملك «والغني بما ملك» كما قال قديما بديع الزمان الهمذاني، وجزاهم الله كل خير وأبقاهم ذخرا للمعرفة، ومن الأمانة العلمية عز وكل فائدة لصاحبها، علاوة عن خلق الاعتراف بالجميل لذويه، لا السطو على الفائدة ونسبتها إلى النفس في غير تورع ولا حياء تظاهرا بسعة الاطلاع وتدليسا على القارئ وغمطا لصاحب الحق والفضل. هذا رأيي وعقيدتي، مع أني اكتويت بشواظ من عقوق ولؤم بعض الأفاضل. فقد أعنت بعضهم إعانة متنوعة كبيرة في تأليف له في التاريخ، من إمداد بوثائق وكتب وترجمة من الفرنسية إلى العربية وترجمة لبعض الأشخاص وعلى ضوء ما أمددته به حور
1 / 7
الكتاب ونقّحه بعد أن كان على وشك تقديمه للطبع وكدت أكون شريكا له في التأليف، لكني تكرّمت بإعانته تشجيعا لأخ كريم فاضل ووضعت له فهرس المصادر والمراجع، ذكرت فيه ما لم يسمع به فضلا عن أن يراه حتى نوّه كاتب مقدمة الكتاب بأنه واسع الاطلاع، ومع هذا فإن هذا السيد لم يذكرني بكلمة واحدة في المقدمة، وكأنه أمر يشينه أو ينقص من علمه وفضله، ولم يتكرم بإهداء نسخة بعد طبع الكتاب كأن أتعابي أقل قيمة من نسخة منه وتألمت من هذا الموقف اللئيم غير المرتقب فكاتبته غاضبا وعائبا، وانقطعت كل صلة بيني وبينه ما يقرب من ثلاث سنوات، إذ توفي ﵀ وسامحه - في سبتمبر ١٩٧٨ وراودتني نفسي في أول الأمر كشف حقيقة الأمر وفضح تدليسه وتلبيسه ورفع النقاب عن أخلاقه ومبلغ علمه ولدي رسائل بخط يده تثبت بعض ما ادعيت لكنني عدلت عن هذا في إبانه لأنه طاعن في السن فخشيت أن يثقل هذا عليه إذ ربما لا يتحمل الصدمة ومع كل هذا فإن طبعي لم يسرق من طبعه ولا أتحول ولا أتغير، ولا أدعي بأني أتيت بما لم يسبقني به أحد ولكنني كشفت الستار عن بعض المغمورين ويسّرت السبيل أمام الباحثين.
والله سبحانه هو الموفّق المعين ومسدّد الخطى لسلوك الطريق القويم.
محمد محفوظ صفاقس في ١٩ شوّال ١٣٩٨ الموافق ل ٢١ نوفمبر ١٩٧٨
1 / 8
حرف الألف
آرباش
- (انظر: ٥٨ - الأندلسي)
١ - آغة (١٢٩٦ - ١٣٦٥ هـ) (١٨٧٦ - ١٩٤٦ م)
مصطفى بن عباس بن مصطفى آغة. ولد في قصر جدّه ببلدة الكرم من الضواحي الشمالية لمدينة تونس، وكان جدّه مصطفى وزير الحرب في دولة المشير الأول أحمد باشا باي وهو شاعر وأديب.
تعلّم في منزله على عادة الأسر الأرستقراطية في عصره، وتلقّى مبادئ العلوم العربية على أساتذة خواص كمحمد القرطبي، وعثمان بن المكي التوزري. ودراسته على هذين الأستاذين حببت إليه المطالعة والاستفادة من كتب الأدب، فأقبل بنهم على مطالعة الدواوين الشعرية قديمها وحديثها فتكونت له ملكة أديبة وكان آية في الذكاء صاحب دعابة ونكتة ونقد لاذع
وقضى شبابه وصدرا من كهولته بقصره منعزلا عن المجتمع باستثناء بعض الأعيان الذين كانوا يزورونه لحضور مجالسه الأدبية كالشيخ أحمد بيرم الحنفي شيخ الإسلام، والأستاذ حسن قلاتي (بالقاف المعقدة) المحامي وحسن حسني عبد الوهاب الباحث المؤرخ، والشيخ محمد باش طبجي والأمير محمد الناصر باي، وغيرهم.
وقد أسس مع بعض أصدقائه «النادي التونسي» الكائن بنهج الكوميسيون بإشراف الأستاذين: عبد العزيز الزاوش، وعلي باش حانبة. والملاحظ أن هذا النادي كانت تؤمه الطبقة الأرستقراطية وكانت تجري فيه الأحاديث السياسية، والمناقشات الأدبية وغيرها، وبرز من هذا النادي مشاريع تونسية عديدة كجمعية الآداب التمثيلية التي تأسست عام ١٩١٠، وجمعية قدماء الصادقية التي ظهرت عام ١٩٠٥، وجريدة «التونسي» التي صدرت عام ١٩٠٧ كما تفرّع عن هذا النادي «الحزب الإصلاحي» الملاين للاستعمار والذي يرضى بما يلقي إليه الاستعمار من فتات الإصلاحات، فقد قبل إصلاحات ١٣ جويلية ١٩٢٢ التي خوّلت تأسيس المجلس الكبير، والحجرات الاقتصادية، ومجالس الجهات الخمس، ومجالس العمل، وهذا الحزب لا يرى مانعا في سياسة المشاركة في المسئوليات مع الفرنسيين.
1 / 9
ونظرا لاختلاف وجهة النظر السياسية بين الحزب الدستوري القديم والحزب الإصلاحي فقد وقع الادعاء على الحزب الأخير بأنه يسعى لمناهضة اللغة العربية من خلال المسرحيات التي تقدمها جمعية «الآداب التمثيلية» المنتمية إليه، فأسس الحزب القديم لمناهضته جمعية «الشهامة» التي تولّى رئاستها الشيخ عبد العزيز الثعالبي. وكان لهذا التنافس أثره في الحركة المسرحية فشاهدت الجماهير مسرحيات قدمتها فرقتا الحزبين.
وكان المترجم له منتميا للحزب الإصلاحي متحمسا لمبادئه متحملا لكل مكروه في سبيلها نوّهت جريدتا هذا الحزب «البرهان» و«النهضة» بالمترجم له ونشرتا له مقالاته وأشعاره.
وذكر الشيخ الأستاذ محمد الفاضل بن عاشور في كتابه «الحركة الأدبية والفكرية في تونس» عمل المترجم له في الحزب الإصلاحي الذي تمسك بإصلاحات عام ١٩٢٢ على عهد المقيم العام لوسيان سان، وكان يرى أنها خير من لا شيء فيقول عنه وعن المعركة الحزبية والسياسية التي أرادها الاستعمار لتفريق الصفوف وإضعاف المقاومة والقضاء عليها «... واحتضن مصطفى آغة نادي الحزب ونوّهت به جريدتهم. وكان من شغوفه الذاتي وتساميه الفلسفي واعتداده بحكم العقل والمنطق في كل شيء ما أبعد الشقة بينه وبين الحركة الشعبية، وعملت جريدة الحزب الإصلاحي على إغاظة الشاذلي خزنة دار في مناصرة مصطفى آغة وتقديمه فكان للمعركة الحزبية السياسية دخل كبير في الميدان الأدبي بالمفاضلة بين الشاعرين، كما كان بين الوطنيين والإصلاحيين بمصر بين حافظ وشوقي.
واصطبغت قصائد كل من الشاعرين بصبغة المسلك الذي ارتضاه لنفسه فجاءت قصائد خزنة دار حماسية تفخر بالانتصارات وتثور في وجه الاعتداءات تصدر بمناسبة المواقع الكمالية وحفلات الهلال الأحمر وحوادث التنكر للوطنيين والابتهاج برجوع المبعدين وخروج المساجين ووصف المظاهرات وتشييع الوفود وانعقاد المجامع السياسية وتفيض كلها حماسا ووثوقا بانتصار الحق وحسن عاقبة الصدق ويقوم فنها الشعري على وحدة الغرض وتسلسل عناصره وطول النفس وتلافي القصر على طريق الأطناب فكانت قصائده كالخطب لها من الأثر في السامع وقت إنشادها ما لا يستطيع الناقد أن يكشف عنه ما لم يحدد الظروف التي مكنت لها من القبول، على أن النقد المنصرف للفن الصرف لا يستطيع أن يغطي على أسقام في التركيب، وزحافات في الأوزان، وابتذال في المعاني وحشو في الألفاظ، كانت الحرارة الفائضة من تلك القصائد تذيبها فلا يحسها السامعون.
أما قصائد مصطفى آغة فقد كانت بمعزل عن هذه المؤثرات لم تشر إلى الحركة الوطنية بكلمة ولا جرى فيها ذكر زعيم ولا لفتة إلى السياسة بل تمحضت إلى النظر الفلسفي والوصف الاجتماعي، وأقيم هيكلها على تصوير المقامات وتخييل المحاورات بروح فلسفية ساخرة قانطة تنظر إلى البؤس المادي والشقاء العقلي اللذين حفا بحياة الناس كما ينظر المعري في «اللزوميات».وصوغها واضح جزل التركيب مستكثر من البديع، مطرد في الوصف
1 / 10
يتمشى مع تنقل الحوار وتسلسل الأحداث والمعاني فتتواصل فيه الأبيات لأنها جملة واحدة حتى يكثر فيها التضمين وربما يتعاصى عليه اتحاد الميزان الشعري مع ما يريد من جزالة وسهولة في التركيب فيتغلب على ذلك بزحاف أو خبن، وكثيرا ما يقع بسبب ذلك في إهمال القواعد النحوية فيلحن لحنا فاحشا، على أنه شاعر الحكمة السامية وصاحب الخيال البديع، حقيق بشعره أن يحتل منزلة الاعتبار في مقاييس الآداب العالمية إلا أنه قليل التفنن منسوج على منوال واحد».
آثرنا نقل كلام الشيخ الفاضل بن عاشور على طوله لأنه فيه تحليل واف لخصائص شعر آغة ومميزاته غير أننا نلاحظ فيما يخص النظر الفلسفي في شعره أنه كان منعزلا عن المجتمع منطويا على نفسه فنمت عنده ملكة التأمل العقلي، وأودع شعره هذه التأملات العقلية وهي ليست بنظر فلسفي إلا على ضرب من التجوز. وهو لا يعرف الفلسفة ولا يتقيد بمذهب من مذاهبها ولا بأصولها. على أن هذه التأملات العقلية، وما يسري في أوصال شعره من حوار وقصص جعلته من المجددين في ذلك العصر ولفتت إليه الأنظار بالتقدير أحيانا وبالسخرية والدعابة أحيانا أخرى، فإن الأديب محمد الصالح المهيدي تندر عليه في جريدة «النديم» فإنه دعا التونسيين إلى الاستخفاف بما يكتبه هذا الشاعر من آراء وأفكار والضحك منها. ولو كان لشعره جلال النظر الفلسفي وعمقه لما تجاسر مثل المرحوم محمد الصالح المهيدي على الدعوة إلى الاستخفاف بشعره والضحك منه.
ومن الملاحظ أن الخلاف الحزبي بينه وبين الشاذلي خزنة دار لم يحل دون ربط علاقات صداقة بينهما، فكان المترجم له يتصل به في محل سكناه ب «منوبة» ويقضي معه الأيام والأسابيع في المراجعة والمذاكرة. وأهم ما تعلمه من خزنة دار أوزان الشعر والعروض والقوافي، وكان متخصصا فيها. وكان من الولوعين بشعر خزنة دار ومن المهتمين بتراثه الفكري.
والمترجم له ساهم في النشاطات الفكرية الاجتماعية والثقافية ابتداء من النادي التونسي بنهج الكومسيون إلى جمعية الآداب التمثيلية، إلى جوق التمثيل العربي الذي تأسس سنة ١٩٢١ واختير ضمن هيئته المسيرة، إلى الاتحاد المسرحي الذي عيّنه سنة ١٩٣٧ في لجنة فحص الروايات، إلى نشاطه في الجمعية الرشيدية التي تأسست سنة ١٩٣٤ وكلّفه رئيسها المؤسس لها السيد مصطفى صفر برئاسة لجنتها الأدبية التي اضطلعت بدور هام في ميدان تأليف الأغاني وانتقاء ألفاظها وتطهيرها من المعاني المبتذلة ونوازع الانحلال، وألف كثيرا من الأغاني ومن أشهرها قصيدته «هجر الحبيب» كما أنه غذى الإذاعة بمجموعة من أحاديثه الأدبية.
آثاره:
١ - ديوان شعر طبع بالمطبعة التونسية سنة ١٣٣٩/ ١٩٢٠.
1 / 11
٢ - بيني وبين المعرّي: مجموعة أحاديث ألقاها بالإذاعة. هي عبارة عن حوار تتبع فيه «رسالة الغفران» وأبدى نقده لها.
المراجع:
- أدباء تونسيون، رشيد الذوادي (طبع تونس ١٩٧٢) ص ٩ - ٢٧.
- الأدب التونسي في القرن الرابع عشر، زين العابدين السنوسي (ط أولى) ٢/ ٣ - ١٥.
- الشعر التونسي المعاصر، محمد الصالح الجابري (ط تونس ١٩٧٤) ص ١٨١ - ٢٠٦.
- الحركة الأدبية والفكرية في تونس، محمد الفاضل بن عاشور ص ١٤٥ - ١٤٧.
- مجمل تاريخ الأدب التونسي، حسن حسني عبد الوهاب (ط تونس) ص ٣١٠ - ٣١٦.
- الأعلام ٧/ ٢٤٥ وفيه مصطفى بن محمد بن مصطفى وترجمته أملاها عليه الأستاذ عثمان الكعّاك.
Sadok Zmerli: Figures tunisiennes: les successeurs، pp .١٨١ - ٨٨١ .
* * *
٢ - ابن الأبّار (٦٥٨ هـ١٢٨٠/ م)
محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن أحمد المعروف بابن الأبّار القضاعي البلنسي، نزيل تونس، أبو عبد الله الحافظ المحدث الأديب الكاتب الشاعر المؤرخ صاحب التآليف الكثيرة. أصل والده من أندة (١).
ولد ببلنسية من بلدان شرق الأندلس، المدينة الجميلة ذات الخصب والهواء المعتدل (٢).
وكان والد ابن الأبّار من أهل العلم، ديّنا تقيا، قرأ على طائفة من العلماء وأجازوه. قرأ عليه ابنه صاحب الترجمة القرآن بحرف نافع، وسمع منه أخبارا وأشعارا، ووجّهه وامتحن حفظه أيام الطلب وناوله جميع كتبه. قال ابن الأبّار في ترجمة والده (٣): «وكان ﵀ ولا أزكيه - مقبلا على ما يعنيه، شديد الانقباض، بعيدا عن التصنع، حريصا على التخلص، مقدّما في حملة القرآن، كثير التلاوة له والتهجد به، صاحب ورع لا يكاد يهمله، ذاكرا للقراءات مشاركا لأخذ المسائل، آخذا فيما يستحسن من الأدب، معدّلا عند الحكام، وكان
_________
(١) مدينة من كور بلنسية (الروض المعطار ص ٣١) واندة (Onde) اليوم مدينة صغيرة في مديرية قسطليون وتقع على ٢٠ كيلومترا غربي قسطليون قاعدة المديرية. وكانت أندة على أيام المسلمين تابعة لكورة بلنسية (د. حسين مؤنس مقدمة الحلة السيراء، ص ١٤). وتحرّف اسم أندة إلى أيردة عند الغبريني في (عنوان الدراية).
(٢) انظر الروض المعطار للحميري، تحقيق ليفي بروفنسال، ص ٤٧.
(٣) التكملة لكتاب الصلة رقم ١٤٤١.
1 / 12
القاضي أبو الحسن بن واجب يستخلفه على الصلاة بمسجد السيدة داخل بلنسية، قرأت عليه القرآن بقراءة نافع مرارا، وسمعت منه أخبارا وأشعارا، واستظهرت عليه مرارا أيام أخذي على الشيوخ يمتحن بذلك حفظي وناولني جميع كتبه، وشاركته في أكثر من روى عنه ...».
ويتضح من هذا إن ابن الأبّار نشأ في وسط علمي، ووجّهه والده لطلب العلم. ومن أشهر أعلام بلنسية بل أعلام الأندلس الذين أخذ عنهم وتخرّج بهم في علوم الحديث التي منها معرفة أسماء الرجال وأنسابهم وتواريخهم، وتخرّج به في الكتابة أيضا الحافظ المحدّث الحافل الأديب صاحب الرواية الواسعة والتصانيف أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي، لازمه عشرين سنة. ولم يكتف ابن الأبّار بالأخذ عن أعلام بلنسية بل جال في بلدان الأندلس للأخذ عن رجالها والرواية عنهم. وفي شيوخه كثرة ذكرهم ابن عبد الملك المراكشي في «الذيل والتكملة».وتوفي والده في ربيع الأول سنة ٦١٩/ ٢١ مارس ١٢٢٢ ولم يحضر جنازته لأنه كان غائبا عن مسقط رأسه في ثغر بطليوس، فقد جاء في أواخر ترجمته لوالده «وتوفي ببلنسية - وأنا حينئذ بثغر بطليوس - عند الظهر يوم الثلاثاء الخامس شهر ربيع الأول سنة ٦١٩ ودفن لصلاة العصر من يوم الأربعاء بعده بمقبرة باب بيطالة وهو ابن ثمان وأربعين سنة، وحضر غسله أبو الحسن بن واجب وجماعته وكانت جنازته مشهودة، وأثنوا عليه جميلا نفعه الله بذلك».
وابن الأبّار حريص على الرواية عمن تقدمت سنهم وعلا إسنادهم حتى بعد استكمال تحصيله وتجاوز طور الشباب، اتباعا لتقليد شاع في أوساط المحدثين، فقد لقي بتونس المقرئ الراوية أبا زكريا يحيى بن محمد بن عبد الرحمن البرقي المهدوي مصروفا عن قضاء المهدية (ت. سنة ٦٤٧/ ١٢٥١). وقد اجتمع البرقي في تونس بالحافظ أبي الخطاب عمر بن حسن الكلبي المعروف بابن دحية، وروى عنه، وروى عنه عبد المنعم بن عبد الرحيم الخزرجي المعروف بابن الفرس (١). ويبدو أن ابن الأبّار كان عارفا بمكانته قبل لقائه.
وبعد استكمال تحصيله وإشباع نهمه من لقاء الشيوخ بالقطر الأندلسي رجع إلى مسقط رأسه بلنسية فتولى الكتابة لواليها أبي عبد الله بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن المعروف بالبياسي وقد نشأ هو وأخوه أبو زيد عبد الرحمن في بياسة، فعرفوا من أجل ذلك بالبياسيين.
ولما خرج من بلنسية والتجأ إلى حلفائه القشتاليين خلفه على إمارة بلنسية أخوه أبو زيد عبد الرحمن، واستمر ابن الأبّار على خطته في الكتابة حتى إذا ضيق على هذا الأمير أبو جميل زيان بن أبى الحملات مدافع بن يوسف بن سعد بن مردنيش في بلنسية التجأ إلى حليفه جايم أو خايمة الأول ملك أراغون وصحبه كاتبه ابن الأبّار ثم رجع ابن الأبّار إلى بلنسية عند ما رآه يفضل الإقامة في بلاد ملك أراغون وعمل كاتبا لأبي جميل زيان بن مردنيش الوالي الجديد على بلنسية. وكان القطر الأندلسي في هذا العصر مختل الأوضاع تعصف به الحروب
_________
(١) المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي ص ٢١١ عرضا في ترجمة عبد الله بن محمد بن أيوب الفهري.
1 / 13
الداخلية والحروب الخارجية من الإسبان بقيادة ملك قشتالة وملك أرغوان بحيث أن حركة الاسترداد الإسبانية سجلت انتصارات متعددة واحتلت مدنا عديدة، وكانت الدولة الموحدية في طورها الأخير من الضعف والانحلال، وأفراد بيتها منقسمون على أنفسهم متعطشون إلى السلطة تعطشا محموما بدون إقامة وزن للظروف الحرجة والمصلحة العامة، وأمراء الطوائف من الأندلسيين يتحاربون ويستعينون بهذا وذاك من ملوك الاسبان للتغلب على خصومهم ويرضون في مقابل ذلك بأداء إتاوة سنوية وهي نوع من الحماية بعدها الاحتلال في الفرصة المؤاتية، ويظهر للمتأمل أن مصير الأندلس تقرر منذ العقود الأولى من القرن السادس الهجري.
وكان شرقي البلاد الأندلسية هدفا لهجومات ملك أراغون خايما الأول فاستولى على كثير من القلاع حول بلنسية وشقر سنة ٦٣٣/ ١٢٣٦ وبنى حصن أنيشة قرب بلنسية ليعسكر فيه جنده استعدادا لحصار بلنسية، وقد حاول ابن مردنيش أن يبذل آخر جهوده فاستنفر أهل شاطبة وشقر، فانضموا إلى جند بلنسية، وهاجموا حصن أنيشة في العشرين من ذي الحجة سنة ٦٣٤/ ١٣ أوت ١٢٣٧ ولكنهم هزموا وقتل في المعركة كثير من الفقهاء والعلماء، ومن بينهم العلاّمة المحدّث أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي شيخ ابن الأبّار (١) وهو مقبل غير مدبر يحرض الفارين على القتال.
وكانت هزيمة المسلمين أمام حصن أنيشة دليلا على قرب سقوط بلنسية فأخذ الناس في الانتقال منها. وفي رمضان سنة ٦٣٥/ ١٢٣٨ هاجم ملك أراغون بلنسية وضرب حولها حصارا قويا وأدرك المسلمون فيها أن لا طاقة لهم بصد المحاصرين وعزموا على الاستعانة بسلطان الدولة الحفصية في تونس وعند ذلك أرسل ابن مردنيش وفدا من أهل بلنسية إلى سلطان تونس أبي زكريا يحيى الحفصي وعيّن كاتبه ابن الأبّار من بين أعضاء الوفد في رجب سنة /٦٣٦ ديسمبر ١٢٣٨ وطالب الوفد السلطان أبا زكريا الحفصي بنجدتهم وأدى ابن الأبّار مهمته خير تأدية وأنشد بين يدي أبي زكريا الحفصي (٢) قصيدته السينية الطويلة وعدد أبياتها ٦٧ بيتا من البحر البسيط طالعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا
«وفيها من التكلف ما يكاد يصرف قارئها عن الحال المحزن الذي قيلت فيه (٣)». «وهو فيها شاعر مملوء النفس بالعاطفة مغمور الفؤاد بالأسى بين وطن مغلوب، وملك بالرجاء مطلوب، فالمعاني متوفرة، ومجال القول ذو سعة، من أجل ذلك أطال وأجاد ووجد وجوه الكلام مختلفة، فصال وجال لكنه كان فيها الواصف الناقل ينتقل من هذا كله ولم يكن الخائل الذي يملك تلوين هذه الأوصاف المنقولة وترويقها لتروق حينا وتهول حينا آخر، فهذا
_________
(١) انظر: صالح الأشتر، مقدمة إعتاب الكتّاب ص ٩.
(٢) المرجع السالف ص ١٠ - ١١.
(٣) حسين مؤنس مقدمة «الحلة السيراء» ص ٣٥.
1 / 14
الخطب تفزع له النفوس وتجزع، وهو في حاجة إلى من يصوره فيحسن تصويره لا من يسرده فيحسن سرده.
وإنك إذ تحس جزعا وهلعا عند سماعك هذه القصيدة أو قراءتها فليس شعر الشاعر مبعثه أو مأتاه ولكن ما انطوت عليه الأبيات من تلك الحقائق المتراصة التي أحسن الشاعر جمعها ولم يحسن وصفها» (١).
ولكن القصيدة على أي حال حققت الهدف من إنشادها، وكان لها تأثير في نفس السلطان أبي زكريا فتحمّس وأرسل أسطولا إلى بلنسية مشحونا بالسلاح والقوت والمال.
وكان الملك خايمة الأول قد ضيّق الحصار على بلنسية وراقب ميناءها، وحاول الأسطول الحفصي النزول في موضع جراو قرب بلنسية في ٤ محرّم ٦٣٦/ ١٨ أوت ١٢٣٨ فلم يستطع النزول لوجود الجنود النصارى «فأرسل قائد الحملة أبو يحيى بن أبي حفص عمر الهنتاتي المعروف بالشهيد إلى أبي زكريا الحفصي يعلمه بالحال، واتجه هو بالسفن إلى دانية وهي تابعة لابن مردنيش وأرسى فيها في ١٢ محرّم ٦٣٦/ ٢٦ أوت ١٢٣٨ وترك لأهلها الطعام والسلاح اللذين كان يحملهما أما المال فقد عاد به إذ لم يجد من يتسلمه منه» (٢).
وكان الحصار محكما شديدا حول بلنسية، والقتال ضاريا عنيفا وأعداد جند النصارى تتزايد يوما بعد يوم «حتى أصبح معسكر ملك أراغون كأنه مدينة كبيرة، خفّ إليها التجار من كل صوب» (٣).
وفي الوضع المتأزم اليائس استقر رأي زيان بن مردنيش على مفاوضة الأعداء لتسليم مدينة بلنسية، وتم التسليم في ١٧ صفر /٦٣٦ سبتمبر ١٢٣٨ وقد اشترك ابن الأبّار في المفاوضات وكتب العقد.
وقد وصف ابن الأبّار موكب التسليم، وبعض ما تضمنه اتفاق التسليم وانتقال الناس من بلنسية وخروج ابن مردنيش من قصر الإمارة. قال: «ثم ملكها الروم ثانية بعد أن حاصرها الطاغية جاقم البرشلوني من يوم الخميس الخامس من شهر رمضان سنة خمس وثلاثين وستمائة إلى يوم الثلاثاء السابع عشر من صفر سنة ست وثلاثين وفي هذا اليوم خرج أبو جميل زيان بن مدافع بن يوسف بن سعد الجذامي من المدينة، فهو - يومئذ - أميرها في أهل بيته ووجوه
_________
(١) إبراهيم الأبياري، مقدمة «المقتضب من تحفة القادم» ص. ع. وأثارت هذه القصيدة نقدا ودفاعا في تونس، فقد انتقدها بعضهم ورد على هؤلاء المنتقدين إبراهيم بن محمد بن أبي القاسم التجاني (ت في حدود ٦٦٠/ ١٢٦٢) بتأليفه «مؤازرة الوافد ومبارزة الناقد في الانتصار لابن الأبّار»، انظر مقدمة رحلة التجاني للمرحوم حسن حسني عبد الوهاب ص ٩، ١٠.
(٢) مقدمة الحلة السيراء ص ٣٥.
(٣) المرجع السالف.
1 / 15
الطلبة والجند وأقبل الطاغية وقد تزيّا بأحسن زي في عظماء قومه من حيث نزل بالرصافة أول هذه النازلة فتلاقيا بالولجة (١) واتفقا على أن يتسلم الطاغية البلد سلما لعشرين يوما ينتقل أهله أثناءها بأموالهم وأسبابهم وحضرت ذلك كله وتوليت العقد عن أبي جميل في ذلك وابتدئ بضعفة الناس وسيروا في البحر إلى نواحي دانية، واتصل انتقال سائرهم برا وبحرا وصبيحة يوم الجمعة السابع والعشرين من صفر المذكور كان خروج أبي جميل بأهله من القصر في طائفة يسيرة أقامت معه وعند ذلك استولى عليها الروم» (٢).
وكان حزن المسلمين على سقوط بلنسية عظيما، وبكى ابن الأبّار مسقط رأسه بدمع غزير (٣) قال من رسالة له: «أما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى لبد أسلمها الإسلام.
وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أنسرها الطائرة، وطلعت أنحسها الغائرة فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكن السكن (بسيط):
كزعزع الريح صك الدوح عاصفها ... فلم يدع من جنى فيها ولا غصن
واها وواها يموت الصبر بينهما ... موت المجاهد بين البخل والجبن
أين بلنسية ومغانيها وأغاريد ورقها وأغانيها، وأين حلى رصافتها وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها، أين أفناؤها تندى غضارة وذكاؤها تبدو من خضارة، أين جداولها المنساحة وذمائلها، أين جناتها النفاحة وشمائلها، شد ما عطل من قلائد أزهى نحرها، وخلعت شعشعانية الضحى بحيرتها وبحرها، فأية حيلة لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان، وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان، ثم لم يلبث داء عقرها أن دب إلى جزيرة شقر فأمرّ عذبها النمير وذوى غصنها النضير، وخرست حمائم أدواحها وركدت نواسم أرواحها» (٤).
وقد عدّد ابن الأبّار المدن الأندلسية التي سقطت بأيدي الاسبان، والتي يتوقع سقوطها «... وتلك البيرة بصدد البوار، ورية في مثل حلقة السوار، ولا مرية في المرية وخفقها على الجوار إلى بنيات لواحق بالأمهات، ونواطق بهاك لأول ناطق بهات».
وذهب ابن مردنيش إلى دانية ومعه ابن الأبّار، ثم رأى ابن الأبّار الانتقال إلى تونس
_________
(١) الولجة بالاسبانية (Huelga) وهي الرحبة الواسعة التي تستعمل للنزهة واستعمال ابن الأبّار لهذا اللفظ هنا يدل على أنه كان جاريا في استعمال الأندلسيين. وقد وجدت ولجات كثيرة قرب مدن أخرى ولكني لم أعثر على ولجة بلنسية (د. حسين مؤنس: تعليق رقم (١) على الحلة السيراء ٢/ ١٢٦).
(٢) الحلة السيراء ٢/ ١٢٧.
(٣) مقدمة «إعتاب الكتّاب» ص ١٢.
(٤) الرسالة أورد قسما كبيرا منها الحميري في الروض المعطار ص ٥٢ - ٥٤. [ص ١٠٠ من طبعة احسان عبّاس].
1 / 16
والاستقرار بها ليأسه من الوضع السيئ بالأندلس، ولحسن استقباله بتونس عند زيارته الأولى وتقديره وذيوع صيته (١) وأكرم أبو زكريا الحفصي وفادته وولاه كتابة العلامة، وهي عبارة عن التواقيع التي تضاف إلى المكاتبات السلطانية وترفع إلى السلطان ليضع عليها خاتمة (٢).
تولّى ابن الأبّار هذه الخطة بعد وفاة أبي عبد الله محمد بن الجلاء البجائي (٣) سنة ١٢٤٠/ ٦٣٨ صاحب خطة الإنشاء والعلامة.
وكان من المنتظر أن يلاقي النجاح والتوفيق لسابق تجربته في الخدمة بقصر الإمارة ببلنسية ولكنه لسوء أخلاقه وعدم احترازه من فلتات لسانه لم ينجح في الاضطلاع بهذه المهمة السامية وأخر وبعد تأخيره وتولية غيره كتابة العلامة لم يتقيد بدقة بما أعطي له من أوامر ولعل ذلك مبعثه الغرور.
قال الزركشي (٤): «ثم أخر لسوء خلقه وإقدامه على التعليم (أي كتابة العلامة) في كتب لم يؤمر بالتعليم فيها».
ومثل هذا التفصي من القيود والسير بما تمليه الشهوة والرغبة، وبعبارة أخرى عدم التقيد بأي رسم من رسوم الإجراءات والأنظمة الديوانية، ومثل هذا ربما نجد له مبررا إذا كان القائم بهذه الوظيفة غرا عديم التجربة، أما ابن الأبّار ذو التجربة السابقة فلا تفسير لسلوكه إلا الغرور وإذا كان هكذا فما له والاتصال بقصر له نظمه وتقاليده ويتقلد فيه وظيفة أخرى؟
وآل الأمر إلى تأخير السلطان أبي زكريا الحفصي لابن الأبّار عن كتابة العلامة وتقديم
_________
(١) ذهب الغبريني في «عنوان الدراية» ص ٢٠٦ إلى أنه نزل بجاية أولا (بالقطر الجزائري) واستدعاه إلى تونس المستنصر «وقضى رسالة عند ملك أفريقية في حديث طويل، ثم رجع إلى العدوة قاصدا استيطانها فتخير سكنى بجاية ثم استدعاه أمير المؤمنين المستنصر إلى حضرته فدخلها ...» والذي ذكر غيره أنه نزل تونس في عهد أبي زكريا والد المستنصر وتولى كتابة العلامة له. ثم غضب عليه فاستجار بولي العهد أبي يحيى الذي مات قبل أن تتم المهمة فاستجار بولي العهد الجديد المستنصر وكان ولي العهد يقيم ببجاية والظاهر من سياق الأحداث أن ابن الأبّار دخل بجاية مرتين مرة في عهد أبي زكريا ومرة في عهد المستنصر حين غضب عليه.
(٢) مقدمة الحلة السيراء ص ٣٩. الأوامر الصادرة من الخليفة يكتب عليها العلامة الكبرى «الحمد لله والشكر لله» في أول الكتاب بعد البسملة والعلامة الصغرى في آخر الكتاب إذا كان الأمر يكبر قدر الخليفة عنه وأول من ابتدع تقسيم العلامة إلى كبرى وصغرى شيخ الدولة أبو سعيد عثمان المعروف بالعود الرطب حوالى سنة ٦٥٠/ ١٢٦١ في عهد المستنصر (راجع تاريخ الدولتين للزركشي ص ٢٥ - ٢٦). والعلامة هي شعار الدولة وصيغتها التي تدرج بها الأوامر السلطانية، وتعتبر مقرراتها نافذة (محمد التركي مقدمة مستودع العلامة لابن الأحمر ص ٨). وصاحب العلامة هو كاتب السر (رئيس ديوان الإنشاء).
(٣) تاريخ الدولتين ٢١.
(٤) تاريخ الدولتين ٢١.
1 / 17
أحمد بن إبراهيم بن عبد الحق الغساني التونسي المولد الأندلسي الأصل (١) وكان يكتب العلامة بالخط المشرقي (٢) بما نصه: «من الأمير أبي زكريا ابن الشيخ أبي حفص» (٣) وطلب من ابن الأبّار أن يقتصر على إنشاء الرسائل وكتابتها وأن يدع كتابة العلامة فيها لأحمد بن ابراهيم الغساني فلم يمتثل ما أمر به فبقي يكتب العلامة فعوتب في ذلك وروجع فاستشاط غضبا ورمى بالقلم من يده وأنشد متمثلا ببيت المتنبي:
أطلب العز في لظى وذر الذل ... ولو كان في جنان الخلود
وحمل الخبر إلى السلطان فصرفه عن العمل وأمره بلزوم بيته.
وقد عزا بعض الباحثين (٤) نكتبه إلى أن سعاية بعض حساد ابن الأبّار من أهل تونس ممن ساءهم أن يروا المهاجرين الأندلسيين يحتلون أرفع المناصب في الدولة الحفصية ويزاحمونهم عليها بما يملكون من ثقافات ومواهب، أي أن هناك نزعة بلدية ضيقة لا تنظر بارتياح إلى تسنم الوافدين الغرباء من الأندلسيين أعلى المناصب وأن في هؤلاء غرورا واعتدادا بأنفسهم وثقافتهم وكونهم أهلها وأحق بها من غيرهم.
وليس هذا صحيحا من كل وجه لأن ابن الغماز البلنسي ابن بلدة ابن الأبّار وتلميذ أبي الربيع الكلاعي مثل ابن الأبّار تولى قضاء الجماعة بتونس (ما يعادل بعض اختصاصات وزير العدل الآن) مرات وكتابة العلامة الكبرى، ولم تحدث له مشاكل أو سعايات لأن ابن الغماز كان رجلا هادئا عاقلا رزينا رضي الأخلاق، بعيدا عن مزالق فلتات اللسان والغرور والادعاء.
وكان محل تقدير من جميع الأوساط، ولما مات تأسف الناس لفقده فرثوه بقصائد كثيرة جمعت في تأليفين لرجلين.
إن إخفاق ابن الأبّار مردّه إلى حدة طباعه وسوء أخلاقه وغروره وعدم تحرزه من فلتات لسانه ومما يدل على عدم تحرزه من فلتات لسانه وعدم تقديره لما ينجرّ عنها من نتائج غير سارة، أنه لما قدم من بلنسية في الأسطول نزل ببنزرت وخاطب الوزير ابن أبي الحسين بغرض رسالته ووصف أباه في عنوان مكتوبه «بالمرحوم» ونبّه على ذلك فضحك وقال: «إن أبا لا تعرف حياته من موته لأب خامل» ونمي ذلك إلى الوزير فأسرّها في نفسه وراح يكيد له، وابن
_________
(١) انظر مستودع العلامة ص ٢٩.
(٢) كان الخط في العصر الحفصي قريبا جدا من الخط المشرقي النسخي إلا في بعض الفروق اليسيرة. ومن الوثائق الباقية المكتوبة في أوائل هذا العصر نسخة من الموطأ كتبت في عصر السلطان أبي زكريا الأول، وعليها خط الشيخ محمد بن عبد الجبار الرعيني السوسي (ولعلها الوثيقة الوحيدة التي بها خطه) للمصادقة على المقابلة والتصحيح، والنسخة موجودة بالمكتبة الوطنية بتونس، وأصلها من مكتبة الشيخ علي النوري بصفاقس.
(٣) تاريخ الدولتين ٢١.
(٤) صالح الأشتر مقدمة «إعتاب الكتّاب» ص ١٤. د. حسين مؤنس مقدمة «الحلة السيراء» ص ١٤.
1 / 18
الأبّار يؤذي بلسانه ويتهكم في سخرية من لا يروق له «ويبدو أنه (١) كان ممن ينبزون الآخرين بالكلام القارص أو النقد المهين في خفية وتستر حاسبين أن أمرهم لا يفتضح وأمرهم في الحقيقة لا يخفى على أحد، ومن هنا لقبه خصومه بالفأر ويغلب على الظن أن وجهه كان صغيرا نحيلا، ومن هناك قال فيه أحد خصومه وهو أبو الحسن علي بن شلبون المعافري البلنسي [كامل]:
لا تعجبوا لمضرة نالت جمي ... ع الخلق صادرة من الآبار
أوليس فأرا خلقة وخليقة ... والفأر مجبول على الأضرار
وبعد صرف ابن الأبّار عن خطته انتقل إلى بجاية لملاقاة ولي العهد أبي يحيى زكريا «وكان في أيام أبيه شابا مستضعفا دائم الخوف من إخوته محمد وابراهيم وعمر وأبي بكر (وكلهم ولي بعده) ومن أبناء عمه محمد بن عبد الواحد المعروف باللحياني لعظيم لحيته، ولهذا كان حريصا على أن يكسب لنفسه أنصارا يشدون أزره، فسره أن يتشفع به ابن الأبّار فكلّم أباه في أمره فأعاده إلى الرضا» (٢).
وفي فترة الابتعاد عن الخدمة نظم القصائد الضارعة معتذرا وراجيا عفو السلطان أبي زكريا من زلقة:
لمبشري برضاك أن يتحكما ... لا المال استثني عليه ولا الدما
ندمي على ما ندّ مني دائم ... وعلامة الأوّاب أن يتندما
وفي هذه الفترة ألف ابن الأبّار «إعتاب الكتّاب» «برسم السلطان أبي زكريا، وتذلل في فاتحته فأسرف في التذلل، وقصّ فيه حكايات كتّاب غضب عليهم الملوك والأمراء ثم عفوا عنهم وقبلوا أعذارهم واعتبوهم.
أين هذا من تمثله منشدا:
أطلب العز في لظى وذر الذل ... ولو كان في جنان الخلود
بل ها هو ذا متضرع ذليل في الدنيا لا في دار الخلود!
إن ابن الأبّار تحمله الحدة وسوء الخلق على عدم الانسجام بين مواقفه وأقواله وما كان أغناه عن التذلل والركوع لو أحسن ضبط نفسه ولم يكرع من ماء الغرور العكر.
وتوفي السلطان أبو زكريا سنة ٦٤٧/ ١٢٤٨ وتولى بعده أبو عبد الله محمد الملقب بالمستنصر ثاني أولاده وقد رتب جماعة من العلماء والأدباء لمجالسته وكثير منهم أندلسيون
_________
(١) مقدمة الحلة السيراء ص ٤١، مقدمة المقتضب من تحفة القادم ص (ي).
(٢) مقدمة الحلة السيراء ص ٤٢.
1 / 19
كابن عصفور وابن الأبّار وأبي بكر ابن سيد الناس وأبي المطرّف بن عميرة وغيرهم.
وابن الأبّار لم يستفد من تجاربه في خدمته الديوانية مع ما فيه من خفة وطيش فألب الأعداء حوله لسلاطة لسانه وإيذائه به وغروره فلم يقصّر هؤلاء في نسج الدسائس له حتى أودوا بحياته ومنهم الوزير أحمد بن أبي الحسين، والكاتب أحمد بن إبراهيم الغساني، هذا زيادة عما في حياة القصر من رسوم تضيق بالفضول والغرور.
وقد تمكّن خصوم ابن الأبّار وأضداده وفي مقدمتهم الوزير ابن أبي الحسين من إيغار صدر المستنصر عليه، فنفاه إلى بجاية سنة ٦٥٥/ ١٢٥٧.
وفي مدة نفية ببجاية لقيه أبو الحسن علي بن سعيد الأندلسي وقال بعد أن أشار إلى قصيدته السينية وتوفيقه فيها وإعجاب الناس بها: «إلا أن أخلاقه لم تعنه على الوفاء بأسباب الخدمة، فقلصت عند ذلك النعمة، وأخر من تلك العناية، وارتحل إلى بجاية، وهو الآن عاطل من الرتب، خال من حلى الادب مشتغل بالتصنيف في فنونه، مثقل منه بواجبه ومسنونه، ولي معه مجالسات آنق من الشباب، وأبهج من الروض عند نزول السحاب (١).
وفي هذه الفترة نقّح وزاد في كتابة «التكملة لكتاب الصلة» وأتم كتابه «الحلة السيراء» واستطاع ابن الأبّار أن يسترضي السلطان المستنصر فعاد إلى تونس. ولم تطل مدة إقامته بها حتى قتل.
وذكروا في سبب قتله أنه جرى بالمجلس يوما ذكر مولد الواثق ابن السلطان المستنصر فلما كان من الغد جلب ابن الأبّار بطاقة يعرف فيها بساعة المولد والطالع (٢) فلما وقف عليه المستنصر قال: «هذا فضول ودخول فيما لا يعنيه من أمرنا» وأمر بتثقيفه بسقيفة القصبة، وبعث إلى داره أحمد بن إبراهيم الغساني وبينهما من العداوة ما يكون بين صاحب خطة أخذها أحدهما من الآخر فوجد في تقاييده أبياتا منها:
طغى بتونس خلف ... سمّوه ظلما خليفة (٣)
وحكى المرادي أن البيت الذي وجد له يقتضي هجاء الخليفة هو قوله:
عق أباه وجفا أمه ... ولم يقل من عثرة عمه
فلما قرأها السلطان أمر بضربه ضربا شديدا ثم قتل مرشوقا بالرماح، وأخذت كتبه
_________
(١) نفح الطيب ٤/ ٢٨٢ وينظر اختصار القدح المعلى ١٩١.
(٢) يبدو أنه كان عارفا بالتنجيم.
(٣) بعد سقوط الخلافة العباسية ببغداد بسنوات تلقب المستنصر الحفصي بلقب الخليفة وأمير المؤمنين وجاءت البيعة من الآفاق. وإذا ثبت هذا البيت فإن ابن الأبّار لا يراه أهلا للخلافة.
1 / 20
وتقاييده فأحرقت في موضع قتله وكانت خمسة وأربعين تأليفا وذلك في صبيحة يوم الثلاثاء ٢١ محرّم ٦٥٨ بمقصورة المحتسب خارج باب ينتجمي (١) ثم ندم السلطان بعد ذلك على قتله.
قال المؤرخ ابن أبي الضياف: «وتركها شنعاء في ملوك الإطلاق» (٢).
وقيل إن سبب قتله أنه وجد بين كتبه «كتاب في التاريخ» عثر فيه على ما يسيء إلى المستنصر أثار السلطان فقتله (٣).
وسواء صحّت هذه الحكاية أو تلك في سبب قتله أو لم تصح فإنها لا تفقد دلالتها في عدم احتراز ابن الأبّار من فلتات لسانه وبدوات قلمه وإن الذين ربما دسوا بين أوراقه بيتي الشعر السالفين كانوا عارفين بنفسيته وأخلاقه بحيث إذا تعمدوا الكذب والوضع لا يكذبهم ما عرف عنه من صفات وأخلاق.
ويصدق على ابن الأبّار أنه كان «غير عارف بزمانه ولا مقبل على شانه» لأنه جلب لنفسه عداوة رجال كان في غنى عنها، ولم يكن عارفا بشهوة ملوك الإطلاق في سفك دم من لا يروق لهم أو يخالفهم في الرأي الخلاف البسيط.
ولا نبرئ المستنصر من جسارته على سفك الدماء وليس ابن الأبّار هو الوحيد الذي قتله بل قتل إبراهيم (٤) اللّلياني، ودبر اغتيال ابن عصفور الأشبيلي النحوي وقد بالغ المستنصر في شناعة الانتقام فلم يقتصر على الأمر بضرب ابن الأبّار وقتله، بل أحرق شلوه مع كتبه. وما ذنب الكتب حتى تحرق؟ ! نعوذ بالله من غضب يفقد معه صاحبه رشده واتزانه وكان بوسع المستنصر الاحتفاظ بمكتبة ابن الأبّار وضمها إلى مكتبة القصر وتيسير السبيل لمن يريد الاطلاع أو النسخ وهي كتب علمية بعيدة عن السياسة، ولا تدعو إلى الانتفاض أو الثورة أو الخلاف، وبوسعه التخلص من بعض كتب قليلة تسيء إليه ولا تروق له ككتاب التاريخ - على ما قيل - وكان هذا العمل الإجرامي الجنوني من المستنصر سببا في اتلاف مؤلفات ابن الأبّار بحيث لم يبق منها إلا القليل مما نسخه بعض الآخذين عنه وسمعه منه قبل قتله.
ثناء العلماء عليه:
قال ابن عبد الملك المراكشي: «وكان آخر رجال الأندلس براعة واتقانا وتوسعا في المعارف وافتنانا، محدّثا مكثرا ضابطا، عدلا ثقة، ناقدا يقظا، ذاكرا للتواريخ على تباين
_________
(١) من أبواب القصبة.
(٢) الإتحاف، ١/ ١٦١ (المراجع م. ي.).
(٣) نفح الطيب ٣/ ٣٤٩.
(٤) الصحيح أنه أبو العبّاس أحمد بن ابراهيم، قتله سنة ٦٥٩، انظر: [رحلة التجاني، ٣٧١].
1 / 21
أغراضها متبحرا في علوم اللسان نحوا ولغة وأدبا، كاتبا بليغا، شاعرا مفلقا مجيدا، عني بالتأليف وبحث فيه واعين عليه موفور مادته وحسن التهدي إلى سلوك جادته فصنف فيما كان ينتحله مصنفات برز في إجادتها، وأعجز عن الوفاء بشكر إفادتها» (١).
وقال عبد الحي الكتاني (٢): «وهو عندي عديل ابن خلدون وابن الخطيب في الإنشاء وملكة الشعر، ويفوقهما بصناعة الحديث ومعرفته معرفة تامة، ليس للتونسيين من يشاركه ويضارعه فيها، ولفرط اعتنائه وعظيم اهتباله قال الغبريني في «عنوان الدراية (٣)»: لا يكاد كتاب من الكتب الموضوعة في الإسلام إلا وله فيه رواية بعموم أو خصوص».
تلامذته:
روى عنه صهره على بنته أبو الحسن عيسى بن لب، وأبو بكر بن أحمد ابن سيد الناس، وأبو الحسن علي بن إبراهيم بن محمد التجاني التونسي، ومحمد بن أبي القاسم بن رزين التجيبي نزيل تونس، ومحمد بن الجلاب نزيلها، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن برطلة، وعبد الله بن هارون (٤) الطائي القرطبي نزيل تونس.
وابن الأبّار لم ينتصب للتدريس والإسماع في مسجد أو مدرسة، ولعل هؤلاء سمعوا منه في منزله بتونس.
مؤلفاته:
أغلب تآليفه في الحديث أو ما له صلة به كالمعاجم التي ألّفها عن بعض مشاهير محدثي الأندلس ولا يكاد المحدث يخلو من العناية بالتاريخ والتراجم، ولعل أول مؤلفاته كانت في الحديث كالمورد المسلسل، والمأخذ الصالح، ثم المعاجم، وتكملة كتاب الصلة الذي ألّفه قبل «معجم أصحاب أبي علي الصدفي» للإحالة عليه في هذا الكتاب، وتناوله بالتنقيح والزيادة في تونس وبجاية. ونذكر فيما يلي تآليفه مرتبة على حروف المعجم:
١ - حضار المرهج في إحضار المبهج على نحو كتاب أبي منصور الثعالبي. كذا قال ابن عبد الملك المراكشي ولم يبين أي كتاب من كتب الثعالبي نحا منحاه.
٢ - أربعون حديثا عن أربعين شيخا من أربعين مصنفا لأربعين عالما من أربعين طريقا إلى
_________
(١) الذيل والتكملة ٦/ ٢٥٨.
(٢) فهرس الفهارس ١/ ٩٩.
(٣) عنوان الدراية ٢٥٩.
(٤) الذيل والتكملة ٦/ ٢٥٧.
1 / 22
أربعين تابعا عن أربعين صاحبا بأربعين اسما عن أربعين قبيلا في أربعين بابا. أبدى فيه اقتداره مع ضيق مجاله، ما عجز عنه الملاّحي من ذلك (١).
٣ - الاستدراك على أبي محمد القرطبي ما أغفله من روايات الموطأ.
٤ - إعتاب الكتّاب، حققه وعلّق عليه وقدّم له الدكتور صالح الأشتر وطبع بالمطبعة الهاشمية بدمشق سنة ١٣٨٠/ ١٩٦٠ من مطبوعات مجمع اللغة العربية، «وتسمية الكتاب توحي بالغرض الذي ألّف من أجله وتكشف عن موضوعه، فالأعتاب مصدر من «أعتب» وتقول «اعتبه» إذا أعطاه العتبى أي الرضى وأزال لومه وأرضاه وإعتاب الكتاب - إذن - إعطاؤهم العتبى بالرضى عنهم والعفو عن زلاتهم وإعادة الحظ والحقوق إليهم، وبذلك يلخص عنوان الكتاب غرضه وموضوعه
والغاية من تأليف الكتاب أنه أراد أن يضرب للسلطان أبي زكريا الأمثال في حلم الملوك وعفوهم عن أخطاء كتابهم، فراح يبحث عن هذه الأمثال في تراجم الكتاب في الشرق والغرب الإسلاميين ويتقصاها ويجمعها، ويبرز في كل مثل إقالة الذنب ليحث بذلك السلطان على إقالة ذنبه، ومن هنا كان الكتاب في هيكله العام تراجم مقتضبة لهؤلاء الكتّاب وأخطائهم وعفو أسيادهم عنها. ولما كانت إقالة العثرة هي المحور الأساسي في تأليف الكتاب فقد أهمل المؤلف في ترجمة كل كاتب ما ليس له صلة بذلك المحور في حياتهم.
ويمكننا تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول المقدمة: وفيها استعرض المؤلف موضوع كتابه ويشرح الغرض منه.
القسم الثاني: تراجم الكتّاب وعددها خمس وسبعون ترجمة تختلف طولا وقصرا فبعضها يتسع حتى يشغل أكثر من خمس صفحات. ويضيق بعضها ويقصر فلا يزيد على أسطر قليلة
أما تصنيفه التراجم فقد قسمت إلى قسمين ظاهرين:
أولهما لتراجم الكتّاب المشارقة وثانيهما لكتّاب المغرب الإسلامي (شمالي افريقيا والأندلس) وإن لم تكن مراعاة هذا التقسيم دقيقة جدا ذلك أننا نجد في قسم المشارقة أمثال داود القيرواني وعبد الله بن محمد الزجالي الأندلسي، كما نجد في القسم الثاني ترجمة لكاتب صلاح الدين.
وتتسلسل التراجم في كل من القسمين تسلسلا زمنيا ... وقد أهمل ابن الأبّار في كل ترجمة تحديد سني المولد والوفاة، والحق أن الكتاب يمثّل أسلوبا جديدا في فن التراجم، أسلوبا موجها وجهة خاصة.
_________
(١) الذيل والتكملة ٦/ ٢٥٨.
1 / 23
ويشير ابن الأبّار في أغلب الأحيان إلى مصادره التي ينقل منها، وقد كان أمينا في نقله حتى ليبدو لنا في كتابه جمّاعة يجمع وينقل ويحاول أن يربط ويضم أطراف ما يجمعه وينقله ويضيف إلى ذلك وهنالك إشارات إلى السلطان أبي زكريا وولي عهده أبي يحيى. أما ابن الأبّار المؤلف حقا فلا يظهر إلا في التراجم التي خص بها بعض الكتّاب الأندلسيين الذين عرفهم في حياته معرفة شخصية.
والقسم الثالث: خاتمة المؤلف وفيها يعلن ابن الأبّار غايته بعد تقديمه الكتاب إلى السلطان أبي زكريا فجميع تلك الأمثلة التي ضربها لعفو الملوك عن زلاّت كتّابهم هي دون عفو السلطان أبي زكريا عن زلته.
ولكتاب «إعتاب الكتّاب» قيمة محققة فهي مصدر تاريخي يكشف لنا عن حياة عدد كبير من الكتّاب والوزراء في الدول العربية والإسلامية وقد يقدم لنا أحيانا معلومات لا نجدها في مصدر آخر تزيدنا علما بتلك الشخصيات السياسية التي لعبت أدوارا هامة في تاريخ الحضارة الإسلامية وتنير لنا جانبا من النظم والتقاليد التي كانت متبعة في تنظيم الدواوين وأعمالها في دول العالم الإسلامي. وكتاب «الإعتاب» بذلك كله يأخذ مكانه إلى جانب كتاب «الوزراء والكتّاب» للجهشياري وكتاب «الفخري في الآداب السلطانية» لابن الطقطقى و«كتاب الوزراء للصايي (١)».
وقد مهّد محقق الكتاب ببحث مستفيض عن عصر ابن الأبّار وحياته ومؤلفاته، وتحليل واف لكتاب «إعتاب الكتّاب».
٥ - إعصار الهبوب في ذكر الوطن المحبوب. ولعله يتعلق ببلده بلنسية، وما حاق بها من محن أدت إلى سقوطها بين يدي ملك أراغون، والملاحظ أن كلمة وطن عند القدامى ليس لها اتساع في المدلول كما في عصرنا بحيث تشمل القطر كله بل إن كلمة «الوطن» عندهم مرادفة لكلمة «مسقط الرأس».
٦ - الانتداب للتنبيه على زهر الآداب.
٧ - الإيماء إلى المنجبين من العلماء (أي من أهل الأندلس).
٨ - إيماض البرق في شعراء الشرق.
٩ - برنامج رواياته.
١٠ - كتاب التاريخ، وكان سبب قتله وإحراق كتبه لما وجد فيه من أمور تسيء إلى المستنصر حسب رواية المقري.
_________
(١) الدكتور صالح الأشتر مقدمة إعتاب الكتاب ص ٢٥.
1 / 24