كتاب الطهارة
صفحہ 209
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
الحمد لله الذي أبدع الأنام (1)، وشرع الأحكام، وأسبغ الإنعام على المتفقهين في الحلال والحرام. فصيرهم قدوة الأنام، ومصابيح الظلام. والصلاة على المبعوث لبيان شرائع الإسلام وعلى آله وصحبه [البررة الكرام] (2) المرافقين له في دار السلام (3).
وبعد، فإنه لما انتهض إلى الطلب من لم يمارس قراءة الكتاب (4)، ابتدأنا (5) لهم موعدا بقصد الإيجاز [والاختصار] (6) دون التطويل والتكرار (7)، وفيه من تحرير الدلائل وتقرير المسائل ما تشوكوا (8) إلى نقله، وضعفوا عن حمله. فرأيت أن أملي عليهم من خلاف أهل المذهب ما يحصل به
صفحہ 211
للجمهور الاستقلال، منبها على أوائل التوجيه والاستدلال. وسميته "كتاب التنبيه على مبادئ التوجيه"، وهو كالمدخل إلى كتابي المسمى "بالأنوار البديعة في أسرار الشريعة" (1). وفي هذا الإملاء (2) لمن اقتصر عليه ما يخرجه من زمرة أهل التقليد، وفي ذلك لمن ترقى إليه ما يبلغه رتبة المبرز المجيد، ومن الله سبحانه أستمد (3) المعونة والتأييد وإياه أسال التوفيق والتسديد، إنه جل ذكره الجواد المجيد.
صفحہ 212
كتاب الطهارة
] (1)
أقسام الحكم
أحكام الشريعة تنحصر في ثلاثة أقسام: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في فعله وتركه.
والمطلوب فعله ينقسم قسمين: مطلوب طلبا لا خيرة للمكلف في تركه وهذا هو الفرض، ومطلوب طلبا للمكلف خيرة في تركه وهذا هو المندوب.
والمطلوب تركه ينقسم قسمين: مطلوب طلبا لا خيرة للمكلف فيه وهذا هو الحرام، ومطلوب طلبا للمكلف فيه خيرة وهذا هو المكروه.
والمأذون في فعله وتركه وهو المباح. ولا تقسيم فيه.
والفرض يسمى (2) على الحقيقة واجبا ولازما وحتما، والحرام يسمى محظورا وممنوعا.
والمندوب ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما تعظم أجوره، فيسمى سنة. والثاني: ما تقل أجوره فيسمى نافلة. والثالث: ما يتوسط في الأجر بين هذين فيسمى فضيلة، ورغيبة، وقد قيل في الفرق بين هذه أن كل ما واظب
صفحہ 213
عليه الرسول عليه السلام على فعله مظهرا له فهو سنة بلا خلاف. وما نبه عليه وأجمله في أفعال الخير فهذا نافلة، وما واظب على فعله (1) في أكثر الأوقات وتركه في بعضها فهو فضيلة، ويسمى رغيبة (2). وما واظب على فعله غير مظهر له ففيه قولان: أحدهما: تسميته سنة (3) التفاتا إلى المواظبة، والثاني: تسميته فضيلة التفاتا إلى ترك إظهاره وهذا كركعتي الفجر.
وحدود الواجب والحرام والمندوب والمكروه والمباح على التقريب؛ أن الواجب: ما أمرنا بذم تاركه ومدح فاعله. والحرام: عكسه. والمندوب: ما أمرنا بمدح فاعله من غير ذم تاركه. والمكروه: ما أمرنا بمدح تاركه من غير ذم فاعله. والمباح: ما أنبأنا مالك الأعيان (4) بأن فعله وتركه سيان.
وواجبات الشريعة على قسمين؛ قسم مراد لنفسه كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وقسم مراد لغيره كالطهارة وستر العورة واستقبال القبلة. ولما كانت الصلاة من أشرف معالم الدين وجبت البداية بها لكنها لا تجزي إلا بالطهارة، ولا تجب الطهارة إلا بعد دخول وقت الصلاة. وقد اختلفت طرق المؤلفين في الفقه فجمهورهم على الابتداء بالطهارة لما كانت شرطا في صحة الصلاة. وابتدأ مالك في موطئه وابن المواز (5) في كتابه (6) بأوقات الصلاة. لما تعلق وجوب الطهارة بدخول الوقت، ولنجر على سنن الكتاب (7) فنقول:
صفحہ 214
(أقسام الطهارة)
الطهارة على قسمين: طهارة حدث، وطهارة خبث، وطهارة الحدث على قسمين: صغرى وكبرى، وقد ابتدأ في المدونة بالصغرى وفاقا للابتداء بها في آية الطهارة ولأنها تتكرر ما لا تتكرر الطهارة الكبرى. والصغرى تشتمل على ثلاثة أقسام: فروض وسنن وفضائل.
(فروض الطهارة الصغرى)
ففروضها على المشهور (1) سبعة وهي: النية، والماء الطاهر، وغسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، وموالاة فعلها مع الذكر.
(سننها)
وسننها سبع وهي: غسل اليدين قبل إدخالها في الإناء، والمضمضة، والاستنشاق، ومسح داخل الأذنين، وتجديد الماء لهما، ورد اليدين في مسح (2) الرأس من مؤخره إلى مقدمه، والترتيب.
(فضائلها)
وأكثر ما قيل في الفضائل (3) إنها سبع وهي: التسمية، والسواك، ووضع الإناء على اليمين، وألا يتوضأ في موضع نجس، والابتداء بالميامن، والابتداء بمقدم الرأس في المسح، وتكرار (4) المغسول (5) ثلاثا.
صفحہ 215
وغرضنا محاكاة الكتاب وقد ابتدأ بحكم المغسول في القدر المجزي والتكرار؛ فأما القدر المجزي فإنه الإسباغ بالإجماع، وهو عموم العضو بالماء والدلك (1).
(نهاية تكرار المغسول)
وأما الفضيلة فنهايتها الثلاثة، فمن عم العضو مرة واحدة فقد أتى بالفرض. ووقع لمالك كراهية الاقتصار على الواحدة وعلل بوجهين: أحدهما: خيفة ألا يعم بها، أو خيفة أن يراه من لا يحسن فيقتدي به فلا يعم بواحدة. والثاني: أن المقتصر على الواحدة تارك للفضل جملة وتارك الفضل مقصر، فلا يجوز الاقتصار على الواحدة بإجماع كما لا تجوز الزيادة على الثلاث إذا عم بها بإجماع.
وبأي نية يكرر؟ لا تخلو من ثلاثة أقسام: إما يتيقن أنه عم بالأولى، أو يتيقن أنه لم يعم، أو يشك. فإن تيقن أنه عم [بالأولى] (2) نوى بالزيادة الفضيلة (3)، وإن تيقن أنه لم يعم نوى بالزيادة الفرض، وإن شك نوى بالزيادة الفرض (4). لأن الطهارة في ذمته بيقين فلا يبرأ منها إلا بيقين الكمال، ومتى شك وجب عليه الإكمال فينوي الوجوب. فإن نوى الفضيلة في موضع تجب عليه نية الفرض فقولان؛ أحدهما: الإجزاء، والثاني: عدم الإجزاء. ومنه الخلاف (5) في من اغتسل لجمعته ناسيا لجنابته.
ولا يكرر غسل الرجلين على المعروف من المذهب، لأن المطلوب منهما (6) الإنقاء وقد لا يحصل بالثلاث.
صفحہ 216
(حكم تكرار الممسوح)
وكذلك لا يكرر الممسوح لأن مبنى أمره على التخفيف، والتكرار (1) تثقيل. وفي حديث عبد الله بن زيد (2) أنه "مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ... " (3). وهذا يظهر منه التكرار. ولمحاذرته (4) رأى الشيخ عبيد الله بن الجلاب (5) أنه إذا ذهب بهما إلى قفاه، رفع راحتيه عن فوديه- وهما جانبا رأسه- فإذا رد يديه رفع أصابع يديه عن وسط رأسه ومسح جانبى رأسه حتى يسلم من التكرار بالمسح على موضع واحد. والذي قاله خلاف لجميع أهل المذهب. واتفاق أهل المذهب أن يمر بيديه على جميع رأسه ذاهبا وعائدا ليحصل المسح على جميع وجه الشعر، إذ الشعر منصب من وسط الرأس إلى جهة الوجه ومن الوسط أيضا إلى جهة القفا. وفي تفسيره في هذا الحديث لصفة المسح مناقضة لما ابتدأ به لأنه قال أقبل وأدبر، ثم فسره بالإدبار والإقبال. وخير ما يؤول لذلك بأن الواو لا توجب رتبة الترتيب. فقال: أقبل وأدبر، ومراده أدبر وأقبل، فابتدأ في اللفظ بذكر الإقبال تفاؤلا.
...
صفحہ 217
فصل
وقد قدمنا ذكر الفروض والسنن والفضائل جملة، ومنها ما فصل (1) في المدونة فيترك الكلام عليه إلى بابه، ومنها ما لم يقصد تفصيله (2) كالوجه. والنظر فيه في شيئين (3): أحدهما: حده، والثاني: حكم الشعور النابتة عليه.
(حد الوجه)
فأما حده طولا فمن منابت الشعر المعتاد إلى آخر الذقن. واحترزنا بالمعتاد من الأغم -وهو من نبت الشعر على بعض وجهه- فيجب عليه غسل ما غطاه (4) الشعر من الوجه. ومن الأنزع -وهو من انحسر الشعر عن بعض رأسه- فلا يجب عليه غسل ما انحسر (5) عنه الشعر من رأسه.
فأما حده عرضا ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من الأذن إلى الأذن، والثاني: أنه من العذار إلى العذار (6)، فيخرج من ذلك ما بين العذار والأذن، والثالث: أنه كالقول الأول في حق النقي الخد من الشعر، وكالقول الثاني في حق الملتحي.
وسبب الاختلاف اختلافهم في اسم الوجه على أي شيء يقع.
وزاد القاضي أبو محمد (7) قولا رابعا، وهو أن غسل ما بين العذار
صفحہ 218
والأذن سنة. وهذا وجهه أمره - صلى الله عليه وسلم - بإطالة التحجيل والغرة (1)؛ وهو ما يبدو على أعضاء الوضوء من النور في الآخرة. فمن زاد على المقدار المفروض كثر نوره. ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا غسل يديه شرع في العضد (2).
(حكم الشعور النابتة على الوجه)
فأما الشعور النابتة على الوجه إن كانت خفيفة بحيث تظهر منها البشرة عند التخاطب وجب إيصال الماء إلى البشرة، وإن كانت كثيفة بحيث لا تظهر منها البشرة فقولان: المشهور أن الفرض انتقل إلى الظاهر من الشعر لأنه الذي تحصل به المواجهة الآن. والثاني: أنه يجب عليه إيصال الماء إلى البشرة لأنها محل الوجوب قبل نبات الشعر.
وهل يجب غسل ما طال من شعر اللحية؟ قولان: أحدهما: الوجوب اعتبارا بحكم ما نبتت عليه، والثاني : أنه لا يجب عليه اعتبارا بحكم ما يحاذيه من الصدر. وكذلك القولان فيما طال من شعر الرأس. وأما حكم الوجه واليدين والرجلين وحكم الموالاة فنؤخر الكلام عليها إلى موضعها في الكتاب.
(غسل اليدين قبل إدخالهما في الأناء)
والمشهور من المذهب أن غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء سنة في حق من لم تكن في يديه نجاسة، فإن كان في يديه نجاسة أمرناه بإزالتها حذارا من أن يلاقي بها الماء وتنظيفا لليد من النجاسة. وهل يسن غسلهما للقريب العهد بغسلهما كمن توضأ ثم أحدث في أثناء وضوءه؟ قولان:
صفحہ 219
أحدهما: يسن له ذلك وهو (1) المشهور، كغسل الجمعة فإنه يسن لكل من تلزمه الجمعة وإن كان أنظف الناس بدنا. والثاني: أنه لا يسن له ذلك لأن المقصود بالغسل نظافة اليدين عن الأوساخ التي يمكن أن يلاقيها من جولانها في البدن.
وهل يغسلهما مجتمعتين أو كل واحدة بانفراد؟ قولان: أحدهما: الجمع لأنه أبلغ في النظافة، والثاني: الإفراد قياسا على سائر أعضاء الوضوء. وفي حديث عبد الله بن زيد في ذكر غسل اليدين روايتان: إحداهما: أنه قال: "فغسل يديه مرتين مرتين" (2)، فهذا يقتضي الإفراد. والثانية: "فغسل يديه مرتين" (3) - من غير تكرار- وهذا يقتضي جمعهما. وأما حكم المضمضة والاستنشاق وبقية سائر السنن فنؤخر الكلام عليها إلى موضعه من الكتاب.
(حكم السواك)
وأما السواك فهو من الفضائل في الوضوء، ولا يجب عند فقهاء الأمصار، لأنه ليس مذكورا في الآية نصا ولا تنبيها (4). وهذا عمدتهم (5) في إسقاط فريضة كل غير مذكور في الآية (6) وعمدتهم في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ كما أمره الله تعالى" (7) فأحال على الآية.
(اختلاف المذهب في التسمية)
وأما التسمية ففي المذهب فيها ثلاثة أقوال؛ أحدها: عدها فضيلة- كما
صفحہ 220
قدمنا- لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله [عليه] " (1) (2)، والثاني: إنكارها، لأن الحديث لم يثبت. وأيضا فهو محمول على الذكر بالقلب، وهو النية، والثالث: أنه مخير إن شاء سمى وإن شاء لم يسم. فيعد من نوافل [الخير] (3) ولا يلحق بالفضائل لأنه لم يثبت أمر به.
(وضع الإناء على اليمين)
وأما وضع الإناء على اليمين فالصحيح أنه لا يلحق بدرجة الفضائل لأنه لم يرد أمر بذلك، وقد لا يتيسر في كل الأواني.
(الوضوء بموضع نجس)
وكذلك محاذرة الوضوء بموضع نجس لا يعد من الفضائل، وإنما ينبغي أن يقال إن خاف أن تصيبه النجاسة فلا يتوضأ فيه بوجه، وإن أمن ذلك فالأولى تركه. ولا يلحق برتبة الفضائل.
(مشروعية الابتداء بالميامين)
وأما البداية بالميامن فهو من نوافل الخير، ولا يختص ذلك بالوضوء بل يستحب الابتداء باليمين في كل أفعال الخير.
وأما الابتداء بمقدم الرأس فهو الوارد في حديث عبد الله بن زيد كما تقدم. ويمكن أن يبدأ به لأنه أول العضو (4)، فلا يلحق بالفضائل لهذا (5) الإمكان.
صفحہ 221
وقد تقدم الكلام على تكرار المغسول. وقد استحب مالك وعبد العزيز (1) ما ورد من صورة المسح في حديث عبد الله بن زيد، وقالا: هذا أحسن ما سمعنا في مسح الرأس وأعمه عندنا. وإنما قالا ذلك، لاشتمال تلك الصفة على جميع الرأس. و [أما] (2) الابتداء بالمقدم وهو فضيلة على ما قدمناه، والرد من المؤخر وهو سنة.
...
فصل [في أحكام المياه]
(3).
والماء ما دام على أصله فله صفة (4) الطهارة والتطهير، واجتمعت على ذلك الأمة.
فإن خالطه شيء فلا يخلو أن يكون المخالط [له] (5) قراره وما عادته أن يتولد فيه كالحمأة (6)، أو غير قراره. فإن كان [من] (7) غير قراره فلا يخلو أن
صفحہ 222
يكون طاهرا أو نجسا، ولا يخلو أن يتغير الماء به (1) أو لا يتغير. فإن كان المخالط قرار الماء وما عادته أن يتولد فيه، فإن كان حل فيه من غير نقل ناقل نقله إليه فالماء طاهر مطهر، تغير أو لم يتغير، وإن نقله ناقل إليه فإن لم يتغير (2) فلا حكم له، وإن تغير فقولان: المشهور أنه لا بأس (3) به والماء باق على أصله، لأنه لا ينفك الماء عن جنسه، ولأنه إنما يجاور الماء ولا يخالطه ولا يمازجه حتى لو ترك الماء لتميز عنه. والقول الثاني أنه يسلب للماء التطهير لأنه إنما غيره بفعل فاعل فأشبه ما ينقل إلى الماء من سائر المائعات.
وإن كان المخالط غير قرار الماء وما يتولد فيه والمخالط طاهر كسائر الأطعمة والأدهان؛ فإن لم يتغير الماء فهو طاهر مطهر. فهذا هو المعروف من المذهب. وكرهه الشيخ أبو الحسن القابسي (4) إذا كان الماء يسيرا.
وإن تغير فهو طاهر غير مطهر، لأنه قد يسلب الرقة والنظافة فأشبه سائر المائعات.
(حكم الماء الذي خالطته النجاسة)
وإن كان المخالط نجسا فإن غير لون الماء أو طعمه كان نجسا بإجماع. وإن غير رائحته فكذلك يكون نجسا على المعروف من المذهب. وحكى أبو الحسن اللخمي عن ابن الماجشون (5) أنه لا ينجس بتغيير [الريح] (6). وهذه الرواية محمولة على تغيير الريح بالمجاورة لا بحلول
صفحہ 223
النجاسة في الماء. وإن لم يتغير والماء كثير بحيث إنه إذا حرك [أحد] (1) طرفيه لم يتحرك في الحال الطرف الثاني فهو باق على الطهارة والتطهير.
فإن كان الماء يسيرا ولم يتغير. ففي المذهب ثلاثة أقوال: أحدهما: إنه نجس وهو مقتضى مذهب المدونة. والثاني: إنه طاهر مطهر لكنه يكره للخلاف. والثالث: مشكوك في حكمه فيجمع بينه وبين التيمم.
فوجه الحكم بنجاسته قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" (2)، ليبين إذا كان الماء دون (3) القلتين حمل الخبث. وأيضا فإن النفوس تعاف الماء اليسير إذا حلته النجاسة اليسيرة ومبنى النجاسات على ما تعافه النفوس وتستقذره الطباع. ووجه الحكم بطهارته قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خلق الله [تعالى] (4) الماء طهورا لا ينجسه شيء" (5)، وهذا عموم في كل المياه. ومن رواية البغداديين في هذا الحديث: إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه" (6).
صفحہ 224
وهذا نص [في] (1) أنه باق على الطهارة والتطهير ما لم يتغير أحد هذه الصفات، فهذه مبادئ أدلة المذهب. ووجه الحكم بالشك (2) فلتعارض الأدلة.
وحكى أبو الحسن اللخمي عن أبي مصعب (3) أنه طاهر مطهر من غير كراهة. وهذا لا يوجد في المذهب بل مقول البغداديين على رواية أبي مصعب. وقد قالوا بالكراهة مراعاة للخلاف.
وكيف يفعل على مذهب القائلين بالشك إذا لم يجد غير هذا الماء المشكوك فيه؟ لهم طريقان: أحدهما: أنه يتيمم ويصلي ثم يتوضأ به ويصلي [صلاة] (4) ثانية لئلا يلاقي الأعضاء، يريد بذلك الماء قبل الصلاة بالتيمم. [والطريقة] (5)، الثانية: أنه يتوضأ به حتى يتلفه في الأعضاء ثم يتيمم ويصلي صلاة واحدة.
وسبب الخلاف بين الطريقتين، هل الماء طاهر وإنما يتيمم مراعاة (6) للخلاف؟ أو هو نجس وإنما يصلي مراعاة للخلاف؟ فإن جعلنا الأصل الطهارة كان الأولى الابتداء [به] (7) ثم يتيمم ويصلي واحدة، وإن جعلنا الأصل النجاسة كان الأولى [أن يصلي بتيمم] (8) ثم يعيد الصلاة بالوضوء به.
...
صفحہ 225
فصل (هل الملح كالتراب؟ أو كالطعام)
واختلف المتأخرون (1) في الملح هل هو كالتراب فلا ينقل حكم الماء على المشهور من المذهب؟ أو كالطعام فينقله إلى غيره؟ ولهم في ذلك ثلاثة طرق؛ أحدها: أنه كالتراب، والثانية: أنه كالطعام، والثالثة: أن المعدني منه كالتراب والمصنوع منه كالطعام. واختلف من بعدهم هل ترجع هذه الطرق إلى قول [واحد] (2)، فيكون من جعله كالتراب يريد المعدني ومن جعله كالطعام يريد المصنوع؟ أو يرجع في ذلك إلى ثلاثة طرق (3) كما تقدم تفصيله؟ ووجهها أن الالتفات إلى أصله يلحقه بالتراب، والالتفات إلى استعماله في الطعام وإلحاقه بالربويات (4) يلحقه بالطعام. والتفصيل لأن المعدني لم ينضف إليه زائد (5)، والمصنوع قد انضاف إليه زائد فأخرجه عن بابه.
...
فصل (حكم الماء المستعمل في الطهارة)
وأما الماء المستعمل في الطهارة، فإن كان الذي استعمله (6) نجس الأعضاء فيكون الذي (7) سقط عن أعضائه ماء حلته النجاسة فيعود إلى ما تقدم. وإن كان وسخ الأعضاء غير نجس (8) فهو ماء حلته أوساخ طاهرة، فيرجع إلى
صفحہ 226
ما تقدم من حكم الماء يحله [شيء] (1) طاهر. وإن كان نقي الأعضاء من الأوساخ والنجاسة ففي المذهب ثلاثة أقوال: المشهور: أنه طاهر مطهر يكره استعماله مع وجود غيره للخلاف فيه، والثاني: أنه طاهر غير مطهر، وعلل بثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه لا يسلم من الأوساخ تحل (2) فيه وإن قلت فتضيفه (3)، والوجه الثاني: أنه ماء أتلف (4) قواه في عبادة فلا تعاد به عبادة أخرى، كالعبد يعتق في عبادة فلا يصح عتقه (5) لأخرى. ولا يلزم على هذا في الثوب [ألا يصلي] (6) به، فإنا قد قلنا نفدت قواه في عبادة والثوب إنما المراد منه ستر [العورة] (7)، فحكمه في ذلك باق (8)، والوجه الثالث: أن الأولين لم يذكر عن واحد منهم أنه جمع ما سقط عن أعضائه من الماء ثم استعمله مع كونهم بالحجاز والماء يعوز (9) فيها. وافتقارهم إلى الوضوء والطهارة الكبرى، وتركهم ذلك يشعر بأن هذا الماء لا يجوز استعماله مرة أخرى.
والقول الثالث بأنه مشكوك في حكمه وتطهيره (10)، فيجمع بينه وبين التيمم ويصلي صلاة واحدة، وهذا لتعارض الأدلة؛ إذ القياس الجلي يقتضي بقاءه على أصله، وما ذكرناه من الثلاثة الأوجه يقتضي كونه غير مطهر، فلما تعارض ذلك حكم بالشك في تطهيره.
...
صفحہ 227
فصل في تمييز الطاهر عن النجس
وجميع الموجودات لا تخلو (1) من أن تكون جمادات؛ أعني بذلك (2) ما لم تحله حياة أو ينفصل عن ذي حياة، وحيوانات (3)، وأجزاء حيوانات، ومنفصلات عن الحيوانات (4).
(حكم الجمادات)
فأما الجمادات فجميعها طاهر إلا الخمر وما في معناه عند مالك رحمه الله، والشافعي كل مسكر.
(حكم الحيوانات الحية)
فأما الحيوانات فما دامت مستصحبة للحياة فهي طاهرة ونعني بذلك أعراقها وأسآرها وما ينفصل (5) عن أنوفها إذا لم تستعمل النجاسات، هذا هو المشهور من المذهب من غير استثناء شيء من الحيوانات. واستثنى سحنون (6) الكلب والخنزير تعويلا على الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب. وألحق به الخنزير فحكم لهما بالنجاسة. ورأى في المشهور أن الأمر بالغسل سببه أنهم كانوا في العصر الأول يخالطون الكلاب استمرارا منهم على عادة الأعراب (7)، فقال عليه السلام: "من
صفحہ 228
اقتنى كلبا لغير (1) زرع ولا ضرع نقص من أجره قيراط" (2)، فلم ينتهوا عن ذلك فكلفوا غسل الأواني (3) لينتهوا من اتخاذهم الكلاب؛ لأنهم متى اتخذوها ولغت في الأواني، وغسلها سبعا شاق. ولهذا قدر الغسل [بالسبع] (4) بخلاف غسل سائر النجاسات (5).
(حكم الحيوان فاقد الحياة)
فإن فقد الحيوان الحياة فهو على قسمين؛ بري وبحري، فالبحري على قسمين (6): قسم تطول حياته في البر بعد مفارقته الماء، وقسم لا تطول حياته. والبري على قسمين: قسم لا دم فيه، ويعبر عنه بأنه لا نفس له سائلة، وقسم له نفس سائلة (7).
(حكم الحيوان البحري)
فأما البحري الذي لا تطول حياته في البر فهو طاهر بعد الموت كهو في الحياة. وأما ما (8) تطول حياته في البر كالسلحفاة والسرطان فالمشهور من المذهب إلحاقه بالأول، والقول الثاني إلحاقه بحيوان البر. واختلف في افتقاره إلى الذكاة، وسبب الخلاف أن الذكاة شرعت في الحيوان لإراقة الدم، أو لإزهاق الروح بسرعة. وما تطول حياته في البر من البحري لا دم
صفحہ 229